بعد صراع طويل مع قوى الظلام والتخلف، انتصر الإنسان الأوروبي الحديث على سلطة الكنيسة، وأصبح العقل سيد الموقف، والإنسان هو المركز والأصل المطلق. إن المتأمل لتاريـخ الفكر الإنساني في مراحله المتعددة، سيلاحظ أن ثمة شيئا أكيدا ظل يسيطر على روح هذا التاريـخ منذ ما قبل الميلاد حتى القرن التاسع عشر، وهو النزعة (التأليهية) التي تغالي في تأليه وتقديس الأفكار وأبطال التاريخ. إنها مرحلة أولى من مراحل الوعي وأشكال الترميز تلك التي عانى منها الإنسان أول مرة في الشرق، بعد تأسيس (الميتوس) أو الأسطورة كخطاب معرفي وثيولوجي وأخيرا كمصدر للقيمة وإبداع المعايير، والميتوس هو المسؤول الأول والوحيد عن كثير من الإنجازات البشرية التي طالعنا بها الإنسان الشرقي القديم ممثلة في بناء الأهرامات وحدائق بابل والمسلات وكثير من الآراء الكونية والمعادلات الرياضية ذات الطابع العملاني الملتصق بالطبيعة، ولا يخفى تأثر مؤسس الفلسفة طاليس وفيثاغورس وغيرهما من الفلاسفة الطبيعيين الأوائل بالنصوص التوراتية والمصرية القديمة وقصيدة الخلق البابلية. ومع الغزو الفارسي لشعوب البحر الأبيض وخاصة الأوروبية والتواصل التجاري وتطور الحركة الأسطولية انبثق طائر الفينيق من جديد في بلاد اليونان، ولهذا الشعب حضارة تتوغل في عمق التاريـخ إلى مدى ألفي عام قبل الميلاد. وفي المراحل الأولى لهذه الحقبة التاريخية الحاسمة بدأ (الميتوس) يتبدى من خلال أشكال وصور ورموز ما لبثت أن تضافرت لتكون المسؤول الأول ــ من جديد ــ عن تشكيل خطاب جينالوجي مرتبط بالمناخ الشرقي على سبيل المشاكلة والمحاكاة والتقليد، ولكن (العقل) الإنساني ضنين على نفسه فكان لا بد من إحداث طفرة أو انحراف ما، على مستوى معين، فهو لا يني يطارد نفسه، ويفارقها بحثا عن ممكنات جديدة يكون مرضيا عنها، وهذا ما حدث للميتوس اليوناني (المغترب) الذي بدأ كالأفعى ينزع ثوبه ليكتسي ثوبا قشيبا يليق بالطبيعة الجدلية للإنسان، فرأيناه يبدع ويضيف إلى الإرث الإنساني ما يجود به الزمان الداخلي الخاص به، والزمان الخارجي المتقاطـع مـع الأغيار (الذين سيصبحون برابرة في المرحلة التأليهية اليونانية اللاحقة)، وكان هذا قبل الميلاد بألف ومائة عام حدث خلالها إبداع مفاهيم جديدة وقيم جديدة وأساطير جديدة ومتطورة، وخطاب ميثولوجي مرجعي فريد، يستقي أصوله الأولى من وقائع و «أخبار» طروادة والتي كانت تتويجا لصراعات اثنية مريرة وغارات قبلية دامية، حدثت في القرنين الثاني عشر والحادي عشر قبل الميلاد. وكانت القصائد الهوميرية هي البؤرة الدلالية المؤسسة لهذا الخطاب، بل إنها «تعتبر أقدم ما وصل إلينا من شواهد الفكر اليوناني» كما يقول الدكتور يوسف كرم، وهي تؤلف قصتين كبيرتين هما الالياذة والأوديسة، ولعل ما يميز الخطاب الهوميري، أنه المؤسس الفعلي (للميتوس) اليوناني الحي والخلاق، والذي قطـع مـع الأصل الشرقي، وأوقف حالات الاغتراب والوجدان القومي المستلب، من خلال إبداع جديد أو توطين مفاهيم ورموز قديمة من خلال تبيئتها و «ترويضها» !.. وهذا العمل لا ينسب إلى رجل واحد، بل إنه محصل (تجربة إنسانية) معقدة.. ويذهب كثير من المؤرخين إلى أن عمل الرجل المسمى هوميرس مقتصر على الجمع والتنسيق، وهذا واضح من اسمه الذي يعني في اليونانية (المنسِق). يتبع..