** يُروى أن الإمامَ أبا حنيفةَ عاتب تلميذَه أبا يوسف حين رآه يُدون كلامَه وقال له :» ويحك يا يعقوب ؛ أتكتب كلَّ ما أقول ؟ إني قد أرى رأيًا وأخالفُه غدًا وقد أرى الرأي غدًا وأخالفه بعد غد». ** كذا وعى السلفُ المرونةَ العقليةَ والانفتاحَ الذهنيَّ فعُرف لبعضهم قولان أو أكثر في مسألةٍ علميةٍ محددة،ووعينا تنوعَ المتماثلين في قضيةٍ واحدةٍ قد تمتدُّ بين حرمةٍ مطلقةٍ وحلٍ مطلقٍ ولم يعب أحدٌ على أحد مثلما لم يرَ المستفتُون تناقضُا من المستفتَين. ** اختصَّ الفقهاءُ الأولون بهذا وتبعهم الآخِرون وفقَ ما نسميه اليومَ مرحليةَ الفكر؛فلا أحدَ يستطيعُ الوقوفَ في محطةٍ لا يتحركُ قطارها إلا إذا بلغت رحلة الحياةِ منتهاها. ** متغيراتُ الحياةِ وفيها العمرُ والعملُ والتجربةُ والوعيُ قابلةً للتبدلِ وعصيةً في الوقت ذاته على التلون التي تحكم مسيرةَ ذوي الهوى والغِوى ممن تختلف مواقفهم بناءً على مصالحهم المتصلة بالشخوصِ والأنظمةِ فيمدحون ما قدحوا حين يمتحون ويقدحون بما مدحوا عندما يُمنعون. ** لا بأس على من رأى غير ما كان يرى حين تتوافر لديه حقائق أو وثائقُ تدعوه لمراجعة مواقفه، وهو ما اختطته الثقافة الإسلامية وتبعتها الحركةُ الإنسيةُ في العصور الأوربية الوسطى ، ولم تعب على من غيَّر اقتناعاته العلميةَ في الفلك والرياضيات والقضايا الفكرية، وهي ذاتها التي أخذت على شاعرٍ عظيمٍ مثلِ المتنبي إعلاءَ شأن مولاه يومًا وخفضَه يومًا تاليًا، وعلى توفيق الحكيم انقلابه من عودة الروح إلى عودة الوعي بعد موت الزعيم، لكنَّ البأسَ على من يستعيدُ موقفًا فكريًّا بنته مرحلةٌ مختلفةٌ ليوظفه ضدَّ صاحبه. ** وفي المقابل فإن المنطق يصطفُّ إلى جانب «مصطفى محمود» الذي استبدل بالشكِّ يقينًا وآمن بعد حيرة، وهو النموذج الضدِّيُّ المقابل للقصيميِّ- رحمهما الله - مثلما لا يرَى غضاضةً فيمن أنكر زمنًا دورانَ الأرض أو صعود القمر ثم اقتنع بهما ومن اعتنق رأيًا أو مذهبًا ثم تراجع عنهما،وقد انتمى كثير من رموزنا الثقافية إلى شعاراتٍ فكريةٍ وحزبيةٍ ثم شاؤوا التحولَ عنها فمرَّ ذلك بهدوءٍ ودون تعييب ،وعُدَّ هذا ضمن المواصفات الإيجابية للشخصياتِ الحيويةِ المتفاعلة؛ فلا مكان للجمود في محيطٍ مائج. ** نشأ فقهُ الواقع ليواكبَ المتغيرات،ودرس المختصون الناسخَ والمنسوخ والمحْكمَ والمتشابه والعامَّ والخاص لفتح باب الاجتهادات، ووُجد الحقُّ والباطل والخيرُ والشر واليمينُ واليسار فامتزجت الرؤى المتضادةُ في كيميائيتها الواقعيةِ التي تفترض التطور لا الثبات والتحول وليس التوقف ودون أن تحدث انفجارًا أو انهيارًا ، أما المتمايلون مع الريح المتجهةِ نحو المصالح الشخصية أو المستجيبة للإملاءات الرسمية فلا وزنَ لهم في المعادلةِ الثقافيةِ الدائمة وإن افترشوا أرائكَ في المعادلة المجتمعية. ** الرؤى تتبدل والمبادئ تتأصل والمتفرغون لتفتيقِ الجراح المندملة يعِيثون ويعبثون. ** التراجعُ مراجعة.