حطت بنا الطائرة بمطار ماركو بولو بالبندقية، هذا المطار مرتبط بذكريات رائعة عشناها حين تم اختيار عمل شادية الفلك الأسود ليمثل المملكة بمهرجان البندقبة ٥٤ عام ٢٠١١، وكانت المملكة قد اتخذت خطوات جادة في تبني الفنون والثقافة عموماً للتعبير عن هويتها ضمن السياق الحضاري الدولي، ويومها تبنى المشروع ودفعه للوجود الأمير فيصل بن سلمان أمير منطقة المدينة المنورة الحالي، وساهمت شركة أرامكو ممثلة في مركز الملك عبدالعزيز لحضارة العالم في تمويل ذلك المشروع الفني والذي فاقت كلفته المليون دولار. كما انضمت وزارة الثقافة لدعم المشروع والذي انبثق من مبادرة الدكتور عبدالعزيز السبيل صاحب الرؤى الثقافية الرائدة والذي وقف خلف المشروع داعماً وممولاً على كافة الأصعدة. مشاركة المملكة بالبندقية جاءت في طليعة حراك ثقافي تركز إلى حد كبير حول الفن، وتتالت موجات حضارية رائدة تمثلت في نشوء صالات العرض الفنية المتخصصة بمختلف مدن المملكة، وتأسيس مهرجان جدة الفني ٢١.٣٩، والذي ينظمه سنوياً مجلس الفن السعودي، بقيادة الأميرة جواهر بنت ماجد. وتزامن ذلك مع مشروع كنا كده والذي قام بإحياء قلب جدة القديمة بمهرجان يحتفي بالتراث والفن على السواء بمبادرة محافظ مدينة جدة الأمير مشعل بن ماجد، وتزامن ذاك مع المعارض الفنية التي نظمها الأمير فيصل بن سلمان، والذي استمر اهتمامه الحقيقي بالفن، وتجسد اهتمامه هذه المرة في احتفائه بالخط العربي، حيث نظم له تظاهرة ضخمة من تنظيم القيمة بالمتحف اليريطاني فينيشيا بورتر. تداعى كل ذلك للذهن بينما سلكت وشادية لخارج المطار حيث كانت بانتظارنا فرانشيسكا، المكلفة باستقبالنا من قبل مهرجان بوردي نوني العالمي للأدب وذلك لتدشين كتابي خاتم الذي صدرت ترجمته بالإيطالية مؤخراً. تلك المدينة التي لم تكن لتظهر على خارطة إيطاليا مقارنة بالبندقية وروما وتورينو وفلورنسا، مدينة بوردي نوني انبثقت بقوة في المشهد الثقافي الإيطالي من خلال الكتاب، هذا المهرجان المخصص للأدب والذي دخل هذا العام سنته العاشرة، بدأ باستضافة عدد محدود من المؤلفين ليبلغ عدد ضيوفه من المفكرين حالياً خمسمائة كاتب. والمدهش أن بوردي نوني الواقعة في أقصى شمال إيطاليا هي مدينة بسيطة محوطة بالغابات و تهبط الحرارة فيها شتاء لثلاثين درجة تحت الصفر، وهي في معمارها لاتتميز عن أي مدينة إيطالية، لولا هذا المهرجان الذي نجح في استقطاب جمهور من مختلف الجنسيات، ابتداءً من الصين و اليابان وانتهاءً بأميركا اللاتينية. جمهور جلب بعض الرخاء للمدينة، في وقت يعاني فيه الإيطاليون من الكساد الاقتصادي وارتفاع نسب البطالة، جيل والدي كان أكثر حظاً من جيلنا، على الأقل كان من الطبيعي الحصول على عمل والاستقرار فيه مدى الحياة حتى التقاعد، بينما جيلنا لايتمتع بهذا الرفاه المستحيل، الشركة الني عملت بها أفلست بين ليلة وضحاها، ووجدت نفسي عاطلة منذ تسع سنوات، واضطررنا أنا وزوجي لترك روما طلباً للزرق، وهنا حصل هو على عمل بالكاد يكفي لإعالتنا مع ابنتنا، ومعظم جيلي محبط يعاني من البطالة، أنها حياة صعبة بلا أي بادرة أمل. إلا أن مدينة بوردي نوني توفر وظائف للشبان فترة المهرجان، حيث تنبعث كافة المدينة للمشاركة في المهرجان وضيوفه، حوانيتها وشوارعها ومكتباتها وساحاتها ومقاهيها ومطاعمها ترفع شعاره، القطة الحالكة السواد تشع بالنور عيونها الصفراء، ولقد اختار المنظمون للمهرجان القطة شعاراً هذا العام بصفة القطة رمزاً للفضول، الفضول الذي تمثله الكتب، والتي استقطبت الفضوليين من أنحاء العالم، سواء فضول من سعى وراء فكرة أو حكاية وسجلها في كتاب أو فضول من قطعوا المسافات لاكتشاف ما تحويه الكتب ورؤوس المفكرين. تتجول في طرقات المدينة التي تذكر بدروب البندقية وتحملك موجة تلك الحيوية المنبثقة من الفضول المتبادل. في إحصاء أخير ثبت أن نسبة كبيرة من القراء تتمركز في هذه المنطقة من إيطاليا، تبلغ نسبتهم ٧٦٪ من عدد القراء في إيطاليا بأكملها، بينما لاتزيد نسبة القراء في روما عن ٦٪. يؤكد الصحافيون والذين أحاطوا بي في تلك القاعة التي غصت بهم وبفلاشات كاميرات التصوير، يخيل إليك أنك في مشهد سينمائي لجحافل الصحافة التي تطارد المشاهير، بفارق أن الاهتمام هنا بنصب على الكتاب. اهتمام حقيقي وعميق بالكلمة، إذ تنفتح قصور المدينة العريقة وأماكن عبادتها ومجلس بلديتها لتنظيم لقاءات للجمهور مع القراء المتزايدة أعدادهم، بل وتتصاعد الحفاوة حين تتبرع مطاعم المدينة ومقاهيها بتقديم وجبات مجانية للضيوف، إذ يمنحك المنظمون كوبوناً تقدمه لأي مطعم يروقك، وتتناول وجبتك الدسمة والتي تبدأ بالمعجنات والسباجيتي كطبق من المقبلات، وتتالى الأطباق الملغومة، منتهية بالحلوى السخية. تشعر بوزنك يتزايد مع كل خطوة واستسلامك لإغراء الأطباق الإيطالية الشهية. أووه أنت رجاء عالم؟!! استقبلتني مالكة المطعم المرحة بترحيب حماسي، لقد غص مطعمي اليوم بالزبائن، أرادوا أن يتناولوا وجبتهم قريباً من هذا القصر المواجه لنا، حيث سيتم فيه تقديمك ومحاورتك، شكراً، لقد جلبت علينا رخاءً. احتفاء بالغ وتجمهر غير مسبوق لوسائل الإعلام، إذ يتجسد بعنفوان في هذه المدينة الصغيرة فضول وعدسات ممثلي كبرى الصحف الإيطالية والمجلات والقنوات التليفزيونية والإذاعية، تغطية مدروسة تعزز حيوية هذه التظاهرة التي قامت بما يشبه البعث لهذه المدينة الشمالية. وتفهم لماذا يعد هذا المهرجان بحق من أهم مهرجانات إيطاليا الأدبية. القطة السوداء شعار المهرجان القصر الذي تم فيه اللقاء رجاء عالم