ليس هناك كائن على الأرض سواء كان إنسانًا أو حيوانًا أو طائرًا أو حتى حشرة، إلاّ وهو يخاف على حياته، لهذا تعددت وسائل الدفاع عن النفس، إما بالمجابهة أو الهروب أو التخفي أو التلون، والله (يضع سرّه في أضعف خلقه) أحيانًا مثلما يقولون. وأشجع الشجعان قد يبول على ثيابه من شدة الخوف إذا أغلقت في وجهه الأبواب وترك وحيدًا في ظلام الليل مع (عزرائيل). ومن المواقف التي تُحكى ما رواه (أبو جعفر الدينوري) أنه قال: كان (أحمد بن طولون) رجلاً طائش السيف، يجور ويعسف، وقد أحصى من قتلهم صبرًا أو ماتوا في سجنه فكانوا ثمانية عشر ألفًا. ولما ذهب الشيخ (أبو الحسن بنان) يعنفه ويأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر، طاش عقله، فأمر بأن يُلقى به أمام أسد جسيم ضارٍ جائع. وأجلسوا الشيخ في قاعة وأشرفوا عليه ينظرون، ثم فتحوا باب القفص من أعلاه، فجذبوه فارتفع، ودفعوا بالأسد يزجرونه، فانطلق يزمجر ويزأر زئيرًا تنشق له المرائر، ويتوهم من يسمعه أنه الرعد وراءه الصاعقة. ورأينا الشيخ ساكنًا مطرقًا لا ينظر إلى الأسد ولا يحفل به وما منا إلاّ من كاد ينهتك حجاب قلبه من الفزع والرعب والإشفاق على الرجل. ولم يرعنا إلاّ ذهول الأسد عن وحشيته، فأقعى على ذنبه، ثم لصق بالأرض هنيهة، يفترش ذراعيه، ثم نهض نهضة أخرى كأنه غير الأسد، فمشى مترفقًا ثقيل الخطو، تسمع لمفاصله قمقمة من شدته وجسامته، وأقبل على الشيخ وطفق يحتك به ويلعقه ويشمه، كما يصنع الكلب مع صاحبه الذي يأنس به، وكأنه يعلن أن هذه ليست مصاولة، بين الرجل التقي والأسد، ولكنها مبارزة بين إرادة ابن طولون وإرادة الله. قال الدينوري: وانصرفنا عن النظر في السبع إلى النظر في وجه الشيخ، فإذا هو ساهم مفكر، ثم رفعوه، وجعل كل منا يظن ظنًا في تفكيره. فمن قال: إنه الخوف أذهله عن نفسه. وقائل: إنه الانصراف بعقله إلى الموت. وثالث يقول: إنه سكون الفكرة يمنع الحركة عن الجسم فلا يضطرب. وزعم جماعة أن هذه الحالة من الاستغراق يسحر بها الأسد. وأكثرنا من ذلك وتجارينا فيه، حتى سأله ابن طولون: ماذا كان في قلبك وفيم كنت تفكر؟ فقال الشيخ: لم يكن علي بأس وإنما كنت أفكر في لعاب الأسد: أهو طاهر أم نجس - انتهى. إذا كان ما قاله (الشيخ) عن شعوره كان صادقًا فيه، فلا شك أنه أشجع من (عنترة بن شداد)، لأن عنترة خاف من الثور، وهو لم يخف من الأسد (!!). فهل (بلعتموها)؟! - أنا ما بلعتها.