تونس - يثير ارتفاع عدد حالات الانتحار قلقا في تونس حيث تفجرت ثورة إثر إقدام بائع متجول على إحراق نفسه، في حين تعكس هذه الظاهرة تنامي مشاعر الضيق من تردي الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية في البلاد. اذا كان انتحار محمد البوعزيزي أثار صدمة في المجتمع والعالم، الا أن الظاهرة بدأت "منذ أكثر من عشر سنوات"، بحسب ما تقول الدكتورة فاطمة الشرفي الاخصائية في الطب النفسي. وترأس الشرفي لجنة لمكافحة الانتحار أسستها وزارة الصحة في 2015 ودق اختصاصيون "جرس الإنذار" وصيحات فزع في هذا الشأن. وتتمثل مهام اللجنة في وضع استراتيجية وقائية وسجلّ وطني يتضمن إحصاءات حول الانتحار، وذلك للمرة الاولى في تاريخ البلاد. في 2015، انتحر في تونس التي يقطنها نحو 11 مليون نسمة، 365 شخصا أي ما يعادل 3،27 حالة انتحار لكل مئة الف نسمة، وفق اللجنة. وحوالي نصف المنتحرين شباب تتراوح اعمارهم بين 30 و39 عاما. وعلى الرغم من أن حالات الانتحار في تونس بعيدة عن النسب المرتفعة المسجلة في بلدان أخرى، إلا أن فاطمة الشرفي ترى في ارتفاعها "المستمر" أمرا "خطير جدا". وبما ان السجل الوطني لمعدلات الانتحار ليس موجودا بعد، من الصعب قياس هذا الارتفاع. الا ان الشرفي تقول "عندما نقارن بيانات بعض مصالح الطب الشرعي للسنوات 1990 و2000 وبعد سنة 2010، نلمس هذا الارتفاع". يوم 17 كانون الاول/ديسمبر 2010، أحرق البائع المتجول محمد البوعزيزي (26 عاما) نفسه أمام مقر محافظة سيدي بوزيد (وسط غرب) بعدما سكب على جسمه البنزين، احتجاجا على مصادرة الشرطة عربة الفواكه التي كان يعتاش منها. توفي البوعزيزي في الرابع من كانون الثاني/يناير 2011 في المستشفى متأثرا بحروقه، وقد أججت وفاته انتفاضة شعبية أطاحت بنظام الديكتاتور بن علي الذي هرب الى السعودية في 14 كانون الثاني/يناير 2011. بعد الثورة، ارتفعت نسبة حالات الانتحار حرقا، تحت "تأثير البوعزيزي"، وفق مختصين. في 2015، مثل الانتحار حرقا نسبة أكثر من 15 بالمئة من مجموع الانتحارات مقابل نحو 60 بالمائة للانتحارات شنقا و6،5 بالمئة للانتحارات بتناول الادوية. وفي السنوات الاخيرة، برزت ظاهرة التهديد او محاولة الانتحار حرقا، سواء بشكل فردي او جماعي، خصوصا في صفوف خريجي جامعات عاطلين عن العمل ويطالبون بوظائف. وقالت الدكتورة فاطمة الشرفي "كنا ننتظر تسجيل بداية انخفاض (في حالات الانتحار حرقا) سنة 2015 لكنها بقيت مستقرة منذ 2011". وينجم الانتحار دائما عن تراكم عوامل، ويأتي في الغالب إثر الإصابة بأمراض نفسية مثل الاكتئاب. ويربط عبدالستار السحباني، المسؤول في "المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية" (منظمة غير حكومية)، بين تدهور المناخ الاقتصادي والاجتماعي في تونس بعد الثورة وإقدام أشخاص يعيشون ظروفا صعبة على الانتحار. ويقول "طبعا (لانتحار) مرتبط" بالمشاكل السوسيو-اقتصادية و"نتيجة لفقدان الأمل". وفي تونس، معظم العاطلين عن العمل هم من الشبان. وأفاد الدكتور مهدي بن خليل، الطبيب المساعد في مستشفى شارل نيكول بالعاصمة تونس والذي شارك في تأليف دراسة حول تأثير الثورة على الانتحار في تونس، ان البلاد شهدت ارتفاعا في حالات الانتحار بين 2011 و2012، ثم "تراجعا طفيفا" في 2013 قبل "ذروة ثانية بداية من 2014" فسرها بصعوبة "فترة الانتقال" السياسي وتأثير "أزمة الاقتصاد الكلي على الافراد". وأشار الى ارتفاع عدد العاطلين عن العمل أو الناس الذين يعيشون "صعوبات مالية" بين الأشخاص الذين يقدمون على الانتحار. وكان التطرق الى الانتحار في وسائل الاعلام خلال عهد بن علي (1987-2011) من المحرمات. ويقول السحباني "لم تكن هناك بيانات كاملة حول الانتحار، كانت هناك هذه العقدة التي تجعلنا نقول ليس عندنا انتحارات، ليس عندنا عنف". بعد الثورة، أصبح هذا الموضوع يحظى بتغطية إعلامية واسعة وباهتمام منظمات غير حكومية مثل "المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية" الذي ينشر باستمرار احصاءات حول الانتحار ومحاولات الانتحار في تونس. ويحذر مختصون من أن تطرق وسائل الاعلام الى الانتحار بشكل مفرط وبأسلوب "إثارة" يمكن ان تكون له آثار مدمرة. وتقر وريدة بوسعدة، الأستاذة في "معهد الصحافة وعلوم الإخبار" (كلية الاعلام العمومية)، بأن التناول الاعلامي لموضوع الانتحار في تونس تطغى عليه "الإثارة"، وأحيانا يتم الكشف عن تفاصيل حميمية من حياة الضحية. ويجري حاليا إعداد ميثاق في هذا الخصوص ضمن شراكة بين معهد الصحافة وعلوم الاخبار ونقابة الصحافيين و"الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري". وترى بوسعدة انه لا يجب تناول موضوع الانتحار "بوصفه خبرا متفرقا، بل باعتباره مشكلة صحة عامة (..) والتقليص من التفاصيل (..) حتى لا تراود الناس الضعفاء فكرة استعمال الاسلوب نفسه".