يبدو أن الإنسان إذا ما تقدم به العمر وتجاوز الخمسين تعلق قلبه بالماضي وحن إليه، وأخذ يتحدث عنه باعتباره زمنا فاضلا نقيا خاليا من الحسد والنكد وأن أهله كانوا كذلك مقارنة بالعصر الذي يدلي فيه المتحدث بتصريحاته النارية، وأنه عصر مليء بالمنغصات والمكائد والأحقاد، وكل ذلك يجري على سبيل التعميم الظالم والمبالغة الفجة، والوصف غير الموضوعي لحالة الماضي الذي نال المديح الشامل ولحالة الحاضر الذي نال الذم الشامل أيضا، مع أن المتحدث لو مدح صورا معينة من صور الماضي وقارنها بمثيلاتها من صور الحاضر فقد يكون مديحه في محله، أما وصف عصر من العصور بأنه عصر جميل فاضل وأهله كذلك فيما يوصف عصر آخر وأهله بأنه عصر قبيح ساقط، فذلك من قبل التعدي على الحقيقة والمنطق والواقع، لأن الحاضر المذموم يتحول إلى ماض بالنسبة لجيل من الأجيال فينال من ثنائهم بعد ذلك ما يستحق وما لا يستحق، فيما يذم بالطريقة نفسها العصر الحاضر.. وهكذا تتم عملية تقييم العصور المتلاحقة تقييما قائما على العاطفة والانطباع لا على الحقائق والأعمال، ويبدو أن هذا هو ديدن الإنسان في جميع العصور والدهور، فقد كان الناس في أزمنة غابرة يقفون باكين على الأطلال ويبثونها شكواهم ومواجعهم لأنها تذكرهم بالأيام الخوالي ومن مروا بها من أحباب وأهل، مانحين تلك الأطلال من الصفات النبيلة ما يجعلها مزارا لهم ومنارا لغيرهم مع أنها مجرد مواقع وأحجار ! وقد أدرك الشاعر العباسي الحسن بن هاني تفاهة ذلك التباكي والوقوف على الأطلال فسخر ممن يفعله عندما قال : قل لمن يبكي على رسم درس واقفا.. ما ضر لو كان جلس ! وفي ذلك إشارة ساخرة لمن تقدموا عصر أبي نواس من الشعراء الواقفين على الأطلال وعلى رأسهم امرؤ القيس الذي قال : قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخل فحومل. ولعل أبا نواس لا يرى فائدة تذكر من الوقوف على الأطلال واستعادة الماضي والبكاء عليه، فأراد أن يسخر من تلك الأعمال سخرية مريرة ولكنها مغلفة، فركز سخريته على مسألة الوقوف وأنه كان يكفي المستعبر الباكي الجلوس بجوار الأطلال والبكاء حتى تجف دموعه بدل أن يجمع عليه عسرين، عسر البكاء وعسر الوقوف فجاءت سخريته أمر من العلقم بالنسبة لمن يفهم !