كانت سنوات حزينة وسيئة، ولم تزل، تلك التي قدمت بعد عام 2003. ليس لجهة احتلال العراق والتداعيات القاسية التي خلفها، ولا الخراب الذي لحق بمنظومة ألأمن العربي، وإنما لجهة ممارسات ذات طبيعة أكراهية ألزمت الواقع العراقي بها، وعملت على ترسيخها منذ ذلك التاريخ. تشخص أحداها محاولات التأكيد على ميول "الطائفة" بكونها حلا سياسيا، وهوية مجتمعية تعرّف بصفة المواطنة، وتبرر الممالأة للأخر، الأجنبي، بذريعة توطيدها. ذلك ما عملت عليه أحزاب الإسلام السياسي مجتمعة، تلك التي شاركت في تأثيث المشهد السياسي وأدارته، منذ ذلك العام والى ألان. لم تعد "الطائفة" في صورتها الاجتماعية، علاقة تؤثث لمبدأ التكافل المجتمعي، أو في كونها رافعة للسلم الأهلي فيه، كما كان عليه العراق في السابق، بل باتت عنوانا سياسيا، بتوظيف ديني، حشرت فيه المصالح والخصومات والنزاعات الدموية والثأر من الفئة الأخرى، وباتت مدعاة للتباهي الفج والاستقواء وفرض تمثيلاتها بالقوة، في المؤسسات كما في الفضاء ألمديني، كما تحولت، كذلك، الى أن تصبح أحد أوجه التبعية والتواطؤ، مع الأخر المماثل، والمجاهرة بالاحتماء به ضد المختلف في انتمائه المذهبي. عبر هذا التصنيف، الطائفي، سيصار الى تاطير المشهد السياسي العراقي ومأسسته، واختزاله بوصفه تعبيرا عن ميل عقائدي راسخ لا يمكن الفكاك منه، ومؤهل كي يحكم بأطلاقيته، التنويعات الجمعية للمجتمع، وليتم من خلاله توجيه التنازعات السياسية والانتماءات الأثينية والمصالح الفئوية وتقاطعاتها، ووصم العراق بها كحقيقة لا يمكن تجاوزها، بوصفها بنية الهوية الوطنية الجامعة، أي بما تساوي الحقوق ومبادئ العدالة والمساواة وانتماءات المواطنة وحتى الدفاع عنها. هكذا أرادت ألأحزاب المتأسلمة الحاكمة في البلد، في أن تكون المنهجية الطائفية، التي تغذّت من فساد المال السياسي، هي الموجهة في عراق الراهن، ودلالة تعبير كلية عنه. مثل هذه الطائفية، باتت ألان مختلفة تماما، لقد تخطت مرجعياتها الداخلية، وتوسعت بأثر تداعيات معركة استعادة الموصل، الى صبغة إقليمية، طرفيها كل من إيران وتركيا. لا علم لأحد حول كيفية توكيل تلك الأحزاب لأنفسها، اختلاق فرصة قاسية، يكون فيها العراق مرتهنا كساحة صراع لمصالح كل من تركيا بذريعة تمثيل السنة والأقلية التركمانية والخشية عليهم من بطش أذرع إيران، بلد الولي الفقيه، الذي يحتفظ بدور مماثل يدعي حمايته للشيعة. صورة الاختلاف هذه باتت واضحة في ميدان حديث، هو معارك استعادة الموصل، التي قد تبدوا في نتائجها اللاحقة مؤشرا يعزز من تقاسم خريطة تحالفات تلك الأحزاب وسياسيها مابين الدولتين، ما يعني وضع اليد على صناعة القرار في العراق عبر ولاءات متبادلة يتقدمون بها، والى أجل غير معلوم، وبما يجعل البلد يكشف عن نفسه ثانية كساحة لصراع آخر مرتقب، لكنه من نوع آخر. الكثير من السياسيين العراقيين يذهبون لطهران لكسب ودّها، وقلة مثلهم يتملقون تركيا لكسب ود مماثل، والتي تزاحم بدورها على احتلال موطأ قدم في الواقع العراقي القادم. إيران الشريك الذي يوازي تأثير أميركا في أدارة أزمات العراق منذ احتلاله، والموجه لسياسيه بالقوة أو بالفعل، بات يستشعر بخطر الوجود التركي، في محاولة لاقتسام النفوذ. هذا الخطر الذي لم يكن في حدود السياسة والاستشارة العسكرية والحضور الرمزي، الخفي، المتمثل بقيادات ومجاميع من الحرس الثوري الإيراني، بل في شكل قوة عسكرية بواقع ألاف من المقاتلين في قاعدة بعشيقة، مع حليف يتألف من ألاف مقاتلين آخرين من أهالي الموصل تم تدريبهم من قبلها وبمسمى "الحشد الوطني"، والذي يشرف عليهم محافظ الموصل المقال اثيل النجيفي. يضاف الى هذا الوجود العسكري نشر وحدات مدرعة الأسبوع الماضي في ولاية سيرناك الجنوبية المحاذية للحدود مع العراق، والتي صرح خلالها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن "رد انقرة سيكون مختلفا" للفصائل الشيعية المسلحة، إذا قامت الأخيرة "بالتسبب في الإرهاب" في بلدة تلعفر التي تسكنها أغلبية تركمانية. وجود تم أعادة تبريره ودعمه، كذلك، حينما طالب المشاركون في مؤتمر "نداء الموصل.. معركة الموصل وتداعياتها على المنطقة" الذي نظمه المنتدى السياسي الدولي الأسبوع الماضي بمدينة اسطنبول، الى مشاركة تركيا في معركة استعادة محافظة نينوى، معتبرين مشاركتها "ضمانة" لعدم حصول صراع طائفي في المدينة، ومنع الممارسات الطائفية ضد "السنة"، ومعبرين عن "رفضهم الممارسات الطائفية بحق أهل السنة في العراق، والتي اتخذت صوراً عدة من بينها القتل والتهجير القسري والتهميش ما أدى إلى نزوح عدد كبير منهم". فيما يواصل قياديون في مليشيا الحشد الشعبي أطلاق تصريحات تدعي أن الإيرانيين قدمّوا للعراق السلاح والدم من أجل الانتصار على داعش، وحماية شيعة العراق من أفعالهم الإرهابية، مبررين عبر هذه التقولات تدخلات الحرس الثوري في شخص قاسم سليماني ومستشاريه الإيرانيين، ممن يتواجدون على الأراضي العراقية بطلب من حكومتها كما يدعي نائب رئيس مليشيا الحشد الشعبي، الذي وصف تواجد القوات التركية في العراق بكونها قوات محتلة، وهو الرأي الذي تشترك فيه حكومة بغداد. صورة إيران التي تدعي مناصرتها لشيعة العراق، تقابلها تركيا الداعمة لسنته، كما صرح مسئوليها بذلك. هما صورتان تكشفان عن استعدادات لصراع بات مرتقبا في العراق، بأثر الهيمنة عليه، والأخيرة لم تعد تألو جهدا في التقدم كي لا تتأخر كثيرا في تأثيث هذه المشاهد بمكاسب قادمة قد تتحقق من الموصل الى شمال سوريا، ما يعني تقليص مناطق النفوذ لدى إيران. لن يخلوا مثل هذا التنافس أو الصراع، من استعادة السياسي العراقي، لشهيته الطائفية مرة أخرى، والتي تم تأجيلها قليلا منذ احتلال داعش ثلث البلد قبل عامين، والتي ستمنح لتلك المواجهة المرتقبة وتداخلاتها بين تركيا وإيران شرعيتها، بذريعة الحفاظ على الطائفة، وليس النظر إليها بكونها تدخلات دول أجنبية. ذلك ما يشكل مناسبة لهم الى تعزيز وجودهم السياسي الذي أصبح في نظر العراقيين محنة تستدعي التخلص منها. جميع السياسيين العراقيين بانتظار ما تسفر عنه معركة استعادة الموصل، كي يمضوا الى التواطؤ خارج الحدود بذريعة حماية الطائفة المهددة، حتى وأن كان الثمن هو العراق. خاصة، وهم على أعتاب انتخابات في العام القادم. سعد القصاب كاتب عراقي يقيم في تونس