ترفل بلدة مزرعة الشوف في جبل لبنان بطبيعة أخاذة، و»تتعمشق» بموقعها المميز لتطل على مشهد «بانورامي» قد يمتد في لحظات صفاء الجوّ من أعالي جبل الشيخ جنوباً إلى تخوم جبل صنين شمالاً مروراً بـ» أرز الرب» في محمية جبال الباروك وشلال جزين وما بينهما من بلدات وقرى شوفية، فضلاً عن وديان سحيقة وتلال خضراء... وقد تنحو منك التفاتة من جهة الغرب فتلمح غروب الشمس الساحر في البحر الأبيض المتوسط وأنت على ارتفاع 950 متراً. بيوت البلدة العتيقة التي تبعد عن بيروت 50 كيلومتراً عبارة عن مبانٍ جميلة يكللّ أسقف الكثير منها القرميد الأحمر، وتكثر فيها الينابيع كعين الضيعة وعين البقلة وعين يونس وعين الحافوف وعين الجوزة وعين المياسة وعين الشاوية. ولبعض تلك العيون تاريخ عريق، فعين الضيعة مثلاً يعود تاريخ إنشائها إلى زمن نسيب باشا جنبلاط (1852-1922)، وهي عبارة عن سبيل ماء تميّزه بلاطة رخامية كتب عليها بعض الأبيات الشعرية، كانت مطمورة بالتراب إلى أن أعيد ترميمها في العقود الماضية. ووسط عليل الهواء المنعش تبدو بقايا آثار قصر الشوف السويجاني الذي يقال إن ملكة صيدون كانت تصطاف فيه، وهو يقع فوق بلدة الكحلونية المجاورة للمزرعة. وفي محيط البلدة أيضاً نواويس ومغاور وكهوف قديمة ومعاصر زيتون جرنية عتيقة، فضلاً عن «دار الحارة» التي تعود إلى الحقبة العثمانية وقد تبقى منها أقبية قديمة وقنطرة مخطوطة يحيطها نحت لأسدين متوثبين. ومن الأماكن الأثرية الدينية كنيسة مار جرجس المارونية الهامة بقيمتها ومبناها وساحتها التي تجمع أهل الضيعة تعبيراً عن تلاقيهم ووحدتهم، وقد صنّفتها وزارة السياحة اللبنانية من الآثار الأولى، فضلاً عن مقامات دينية مثل مقام الست أم علي فاخرة ومقام الشيخ زين الدين. ولن نتطرّق إلى منطقة «عين التينة» قرب نهر البلدة ومرج بسري و»معبوره» الذي يشكّل خراج مزرعة الشوف ومحيطها الأخضر ومهجع الأجداد، وهو يمتاز بصخور شاهقة ووجود عدد من الجسور القديمة فوق نهره، فضلاً عن أعمدة أثرية قديمة ومغاور مدفنية. مساهمة شبابية تشهد مزرعة الشوف حالياً نهضة إنمائية وسياحية لافتة بفضل مجلسها البلدي الفتيّ برئاسة المهندس يحيى أبوكروم، فضلاً عن ناديها وجمعيتها العريقين النشيطين. وهم يتكاتفون جميعاً لتحقيق نهضة سياحية تجذب الناس من مناطق لبنان إليها. وكان للمهرجان الفني السنوي وحفل المغتربين ولـ «المارشات» البيئية السياحية لتعريف الناس على الطبيعة، ولمعارض المونة البلدية وغيرها، علامات فارقة في التعريف بالبلدة تراثياً وسياحياً، حتى أن فعاليات مدرسة مزرعة الشوف الرسمية التي تديرها المربية كرما البعيني أمست مقصد طلاب المنطقة في الشوف الأعلى ومكاناً نموذجياً لإقامة نشاطات تربوية فنية فولكلورية. ويلعب عنصر الشباب دوراً هاماً في رفد البلدة بالنجاحات، فخلال الشهر المنصرم قدّمت ابنة مزرعة الشوف لورانس البعيني في مقابلتها المتلفزة عبر قناة «أوربت – اليوم»، وجه تفوّق البلدة الحضاري. وكان لانتخاب ملكة جمال قضاء الشوف في جبل لبنان يارا أبوكروم من البلدة مؤخراً وقع محبب يسهم في الترويج للبلدة وسياحتها وجمالية طبيعتها. أما مشروع تأسيس رابطة «آل البعيني» في لبنان وسورية ودبي وفنزويلا والأميركتين وغيرها من دول العالم التي تجمع عائلات روحية لبنانية من جميع الأطياف، عبر فكرة انطلقت مؤخراً من ابن البلدة الناشط نواف البعيني، فقد كان له الأثر الفعّال في تعزيز دور البلدة وانفتاحها اجتماعياً وسياحياً. كما تتردد أصداء فرقة «الأفراح» للدبكة والاستعراض في جميع المناطق اللبنانية والعالم العربي، وبخاصة في دول الخليج العربي، بحيث أمست تلك الفرقة الفولكلورية التي يديرها مجدي ذبيان «سفيرة» مزرعة الشوف بكل ما في الكلمة من معنى. جماليات ومشهديات ويعمل الشاب ماضي معروف ذبيان للحفاظ على تاريخ أجداده وتراث ضيعته من خلال جمع كل ما هو قديم وحرفي. وفي منزله «المعقود» قرب «عين الجوزة» الذائعة الصيت في البلدة حرص ذبيان على عرض كل ما يخطر في البال من أدوات زراعية خشبية وفولاذية قديمة أمست في طور النسيان اليوم، كالمحراث الخشبي والنورج والنير والمذراية والمنجل والمعاول والمهدات النادرة الوجود في يومنا هذا. وفي «كنز» الشاب النشيط مجموعة مميزة من «الزلعات» و»الخوابي» الفخارية القديمة الضخمة التي لا تقدّر بثمن، وهي كانت تستخدم لحفظ المونة في العصور الماضية، وأيضاً مجموعة من الصناديق الخشبية الكبيرة التي كانت بمثابة الخزائن في القرنين السابع عشر والثامن عشر. وللأجران الحجرية المختلفة الأحجام وقناديل الزيت الملونة المزركشة مكان في هذا المنزل المعقود المقنّطر الذي يربو عمره على عقدين من الزمن، وهو بارد صيفاً ودافئ شتاء، وقد أمسى منذ ردح من الزمن مقصداً مجانياً لعشاق التراث، بحيث يقع الزائر فيه على المكواة التي تعمل على الفحم، ومحمصة البنّ اليدوية و»البراد» الحديدي المعلّق، والأواني و»القِدر» النحاسية المدقوقة بنقشات مختلفة. ولأطباق القش حصّة في المكان، وهي تعبّر بألوانها المزركشة عن تراث مشرقي رائع. وقد قام ذبيان بصنع بعضها بأنامله، ويصار إلى استخدامها في تجفيف التين والعنب وغيرهما. وهو ساهم مع والدته السيدة ليلى أيضاً في حفظ «الكروشيه» وشغل «الصنارة» والأشغال اليدوية والمطرزات. وفي المنزل التراثي نلحظ مجسّمات صنعها ماضي بيديه من خشب طبيعي، وقد أضفى عليها لمسات شخصية عبر دمجها بالجرار الفخارية، فضلاً عن بركة مياه قديمة تحفّ بها تحف تحمل أنواعاً نادرة من النباتات والزهور التي تضفي على المكان رونقاً مميزاً، حيث تتوزع «الدشكات» القديمة في «القنطرة» التي يحلو الجلوس فيها وسط زقزقات العصافير، وتأهيل الببغاء «كوكو» بالحضور على طريقته. ولا بد في النهاية من التطرّق إلى «الخيرات» التي تعطيها حديقة المنزل، بحيث يعمل أهلوه على إنتاج ألذّ المأكولات البلدية من مربيات ومخللات ومدبسّات ومكدوس وكشك وتين يابس ومطبوخ وخل عنب وعصير توت ورمان وغير ذلك، حيث يقصدها الزوّار من جميع المناطق اللبنانية للتموّن. كما أن لدودة القز التي تنتج الحرير الطبيعي من شجر التوت حصّة في المكان أيضاً، وقد أنتج ماضي الحرير على رغم انقراض هذه الصنعة التقليدية التراثية في لبنان.