ليس الوشم غريباً على المجتمعات العربية التي اعتادت رؤيتها على أجساد الناس ووجوههم. فالبيئات البدوية وشبه البدوية تبرز الوشم على نحو واسع بخاصة على وجوه النساء كزينة، في تشكيلات ونقاط زرقاء تبدو مبهمة لكثيرين، فيما كان رجال البيئة نفسها يمارسون الوشم كعلاج لبعض الأمراض. واعتاد مسيحيون كثر من جيل ما قبل النكسة عام 1967 على وشم رسم أو أيقونة مع كلمات محددة بالحبر الأزرق على باطن الساعد لتأريخ حجهم إلى مدينة القدس، التي كانت مقصداً لهم حين كانت الزيارة متاحة، بينما اعتاد الأقباط في مصر على وشم صليب قبطي صغير على الكف. تاريخ الوشم قديم جداً على عكس المعتقد الشائع، فهو يعود إلى فترة ما قبل المسيح بكثير، حيث انتشرت بين الفراعنة وقدماء اليابانيين وشعوب من شرق آسيا وأميركا الجنوبية وأفريقيا، مع اختلاف طرقها وأشكالها وخلفياتها من حضارة الى أخرى. لكن اليوم يأخذ الوشم معنى آخر، كما أن النظرة اليه اختلفت وفق الطبقة الاجتماعية والفئة العمرية، حيث بات دليلاً على التحرر والانعتاق من تقاليد المجتمع وسلطة الأهل. ومثلما انعكست حالة اللجوء من سورية إلى لبنان على بعض الشباب السوري لجهة الخروج من عادات وتقاليد وحدود تحكم جزءاً من تصرفاتهم، كان انتشار الوشم على الجسم من الأمور التي يبدو أنها شهدت شيوعاً بين الشباب السوريين أكثر مما كانت عليه إبان عيشهم في سورية، وهو الأمر الذي يؤكده الشباب أنفسهم وأخصائيو الوشم في لبنان من الطرفين. الأمر اللافت (لكن المتوقع ربما) هو انتشار وشوم تعبّر عما عاشه ويعيشه الشباب السوري المعارض للنظام. وإذا شاعت أوشام «الموت ولا المذلة»، «سوريا»، «حمص»، «حلب»... بين الشباب السوريين للتعبير عن مواقفهم وحنينهم، إلا أن عبارات أخرى مثل «حرية»، عبرت الحدود وشاعت في أوساط جيل الثورات العربية من تونس الى مصر ولبنان وسورية وغيرها. ماريا شابة سورية تقيم في بيروت، اختارت أن توشم عبارة «من دون حدود» باللغة السريانية على الجزء الخلفي من رقبتها، وهي فضلت هذا الموضع من جسمها للوشم كي لا يكون ظاهراً على الدوام، إذ تستطيع أن تظهره أو تخفيه بشعرها حين تشاء، كما انه يتاح لها عدم رؤيته على الدوام، ما يجعلها أكثر قدرة على التعايش معه على المدى الطويل. وعن سبب اختيارها هذه العبارة، تقول ماريا إن المأساة السورية ووضع السوريين المؤسف وتقييد حركتهم جعلتها ترغب في أن تتذكر على الدوام أننا كبشر لا ينبغي أن يكون لنا حدود، وأنه من الممكن أن نكون أحراراً كما خلقنا الله، «من دون أية حدود». من أجل القيام بعملية الوشم تعرفت الشابة السورية إلى أخصائي من طريق صديق، ولم تتخذ القرار النهائي إلا بعد أن قابلته وشعرت بالارتياح للتعامل معه. «فالأمر لا يحتمل الخطأ»، على ما تقول، والارتياح والثقة من العوامل الأساسية في موضوع كهذا. أما سليم القادم من حمص وجنى من ضواحي دمشق، فجاء كل منهما بمفرده، وبدأت في بيروت مسيرة حبهما. ومنذ قرابة أربع سنوات يحمل ساعد سليم وشم «حرية» وكتف جنى وشم «سورية، حرية» في تداخل فني جميل. كل حراك الثورة السورية، وبخاصة الجزء الأول منها الذي يشكل أجمل ما فيها برأي الشابين، هو ما دفعهما إلى «طبع جسدهما بكلمات تعبر عن روح تلك الثورة التي تأخرت كثيراً». وصحيح أنه بعد هذين الوشمين شهدت الثورة تغيرات كثيرة وأموراً لم تكن في الحسبان، لكن جنى تنفي أي شعور بالندم تجاه وشم أبدي على جسمها يؤرخ لتلك اللحظة، «فالفكرة لا تزال حية ومحقة وعادلة، والأمل سيبقى مهما خفت» على ما تقول. سليم الذي يتفق مع جنى في ما قالته، وليس نادماً على الوشم وفكرته بحد ذاتها، كان يفضل اليوم لو أن الوشم في مكان أقل ظهوراً للعيان. ويقول: «في بلد كلبنان حيث هناك تيار عريض معادٍ للثورة السورية ويعتبر قيمها كذبة أو قناعاً لمؤامرة، تعرضت لمضايقات بسبب هذا الوشم الذي يظهر رأيي السياسي». وتبدأ هذه المضايقات بنظرات مستاءة وتمر بمضايقات لفظية وصولاً -في مرات نادرة- إلى مضايقات جسدية عنيفة. ولكن، على رغم ذلك لا يفكر سليم بإزالة الوشم، ولا يربط الأمر بالكلفة المرتفعة والألم المرافق لتلك العملية، بل يعتبر أن عليه تحمل مسؤولية قراره، وأن إقامته وجنى في لبنان لن تطول. وتلفت غالبية من قام بالوشم إلى أهمية حسن اختيار الأخصائي. فالنظافة أمر أساسي لا تهاون فيه، إذ أن الوشم كعملية تصل إبر أدواتها إلى دم الموشوم مما يعرضه إلى أخطار العدوى بأمراض كثيرة منها مميت، وهنا من الضروري سؤال الأخصائي عن الأدوات التي يستعملها وطرق تعقيمها والتأكد من استعمال إبرة خاصة وجديدة لكل شخص. بالإضافة إلى ذلك لا بد من السؤال عن المواد المستعلمة في الوشم كالأحبار، فمنها ما يثير حساسية الجلد والبشرة وبعضها يتغير لونه أو يبهت بمرور الزمن، أو يتمدد خارج مساحة الرسم المرغوب. وترتبط النوعية الجيدة للحبر المستعمل عادة بارتفاع سعرها، لذا البحث عن الأرخص ليس دائماً الخيار الأنسب. فالوشم عملية «معكوسة» كما يقول الإختصاصيون، لأن إزالته او علاج اعراضه السلبية في حال وجدت، مؤلم ومكلف أكثر من وضعه علماً إن إزالة آثاره قد لا تنجح على نحو كامل، ولذا ينصح أولاً بتجربة الوشوم الموقتة.