يمثل (خوان غويتيصولو) حالة نادرة وفريدة بين المثقفين الغربيين عموماً والمثقفين الإسبان خصوصاً، إذ شذ عن طابور المثقفين الغربيين الذين انساقوا مع التصورات الاستعمارية تجاه العرب والمسلمين والصور النمطية التي تسمهم بالتخلف والتوحش والإرهاب وغيرها من الأحكام الجاهزة والجائرة والظالمة، فاختار بمحض إرادته تفكيك تصورات هذه العقلية وتشريحها وتبيان شططها وانحرافها عن الحقيقة والمنطق والواقع، وإبراز إجحافها في التعامل مع الآخر، إذ شن حرباً لا هوادة فيها على ثقافته الأصلية إسبانية كانت أم غربية، وفي المقابل أظهر قدراً كبيراً من الاحترام والتقدير لثقافة الآخر، وعلى رأسها الثقافة العربية الإسلامية التي يكن لها قدراً كبيراً من التقدير والاحترام. كاتب أخلاقي حين أراد غويتيصولو أن يتلمس طريقه في الكتابة، رفض أن يكون تابعاً أو مقتفياً لأثر أحد، فتحصن في عرينه الذي لا يتأتى للضعفاء ومهزوزي الشخصية ارتياده، وطوق مملكته الإبداعية بسياج من الرهبة والمنعة، وأسوار سامقة لا تقوى على اقتحامها قوى الإغراء والابتزاز. لا يهمه التفاتة من يلتفت؛ فإطراء المغرمين والمعجبين لا يحرك فيه ساكناً، وذم الحاسدين والحاقدين عمود دخان يتلاشى في سماء كبريائه. ومن كخوان غويتيصولو -صاحب المبدأ والموقف- يستطيع أن يدير ظهره لجوائز مغرية يسيل لها اللعاب؛ ألم يرفض جائزة من معهد (سرفانتيس) بطنجة قيمتها مائة وخمسون ألف يورو لأن مصدرها من أموال حاكم عربي سلطوي مستبد، فقد نقلت جريدة المساء المغربية الخبر على صفحتها الأولى بقولها: (خطوة مثيرة، رفض خوان غويتيصولو، الروائي الإسباني المقيم بمراكش منذ أكثر من ربع قرن، استلام القيمة المالية الخاصة بالجائزة الدولية للآداب.. وعلل صاحب رواية (الرجال اللقالق) رفضه لقيمة الجائزة الدولية للآداب بـ(كون القدر المالي المخصص للجائزة أتى من الجماهيرية العربية الليبية التي استولى فيها القذافي على الحكم بانقلاب عسكري).. وهو نفسه الذي سبق له أن رفض وسام الشرف الذي عرض عليه من طرف الفرنسيين لأنهم قتلة للآخرين، ورفض كذلك التكريم في كاتالونيا لأنه لم يكن يرد أن يكون شاهد زور على فترة زايلها ومنعت فيها كتاباته بين سنوات )1963 - 1976( من التداول في إسبانيا. هذا الموقف الشجاع -وغيره من المواقف التي دأب على تبنيها-، أبعده مسافات ومسافات عن القطيع المسترزق بالثقافة والأدب، عن زمرة المتملقين وفاقدي الشخصية الذين انغمست أقدامهم في أوحال المذلة والمهانة، وعن تلك الطيور المدجنة التي قصت أجنحتها فصارت لا تبرح الأرض ولا تستطيع الطيران وبلوغ عنان السماء، ولكل من ينتمي لهذا الصنف من أشباه المثقفين والكتبة يقول: (أنا لا أتصورك مطلقاً في إحدى تلك المسامرات النشطة، التي تخلب لب مواطنيك، بين الشعراء والروائيين والنقاد وفقهاء اللغة وعلماء النحو، وأنت تناقشهم في موضوعات أدبية إلى أبد الآبدين. فأي عقاب قاس أن ترغم على تحمل صحبة الجامعيين والمتملقين، المزينين بالأوسمة والمدللين من وسائل الإعلام، وكل تلك الزمرة الغبية من الكتبة، والشعراء اللوطيين، وربات الفن المتحذلقات، وفاقدي الشخصية المنتفخين بغرور الاكتفاء الذين وليت منهم الأدبار فرارا!). وعلى خلاف هؤلاء الذين وضعهم في ركن قصي، هناك كوكبة من المثقفين الشرفاء الذين ينحدرون من نبع صفي، فوق رؤوسهم تاج الوقار والهيبة. العزة تملأ جوانحهم، والترفع يسكن كيانهم. يشقون طريقهم بخطى ثابتة، لا يقفون عند أعتاب باب أحد، ولا يمدون اليد لأي كان. لهذا أحبهم الكاتب وأحبوه، وصادقهم بإخلاص وصادقوه بمثله أو أكثر. وكم يسعد لملاقاتهم، وكم يعز عليه أن يفارقهم، وبصراحته المعهودة يقول فيهم: (إنني لا أجهل أنك رغم ازدرائك لقطيع الملتاثين بالكتابة، احتفظت بروابط صداقة مع جماعة محدودة من الكتاب تساوي آراؤهم النقدية فيك كافة المقالات التي تمتدحك في العالم. ولقد غمرك غياب بعض هؤلاء حزناً وحنيناً، خاصة أولئك الذين لم تلتقهم منذ سنوات بفعل عزلتك المتنامية عن العلاقات العامة). وحسب المقولة المشهورة: (الطيور على أشكالها تقع)، فإن الكاتب كان على الدوام يبحث عن أصدقاء من طينته، مثل جان جينيه الذي لم يلتفت يوماً إلى الفروق البشرية المؤسسة على: (لون البشرة، والجنس والتقاليد الثقافية والدينية إلخ باعتبارها غير متساوية في مجال العقل البشري الطبيعي)، وهذا الرجل مثله مثل خوان غويتيصولو ينفر من النفاق وادعاء الرزانة والوفاق، كما أنه: (ينفر من الزهو، ويحتقر القواعد والأشكال الخارجية للمنفعة، لا يبحث عن أتباع، ويأنف من كل إطراء). ومن الكتاب الذين أعجب بهم كذلك غويتيصولو وتأثر بهم أيما تأثر أميريكو كاسترو، الذي ساعده على معرفة التاريخ الحقيقي لإسبانيا، وأتاح له إمكانية المصالحة بين الشرق والغرب، وهكذا نجده يقول: (غدا ما هو إسباني وما هو إسلامي وحدة واحدة لا يمكن الفصل بين طرفيها دون المجازفة بانهيار الكل). ومنذ ذلك الوقت، لم يترك خوان غويتيصولو فرصة تمر دون الإشادة بالمكون الإسلامي في تاريخ إسبانيا وأدب شبه الجزيرة الإيبيرية. الدفاع عن الهوية الخلاسية ينطلق غويتيصولو في تصوره للكتابة الروائية من ثقافة الهامش التي يعتبرها المادة الخصبة لكل إبداع حقيقي، والمنجم الذي لا ينقطع عطاؤه. ومن هنا، فليس من الغرابة أن يكون في الطرف النقيض من هيجل ولوكاتش اللذين يعتبران الرواية ملحمة بورجوازية، وفي المقابل نراه يدخل في تحالف مع نظرية ميخائيل باختين التي ترى أن الثقافة الشعبية هي الرافد الأصيل للرواية، وأن الكرنفالات والحلقات والتجمعات الإبداعية في الساحات التي عرفتها المجتمعات البشرية منذ القدم هي المنبع الأصيل لهذا الجنس. وتجدر الإشارة أن مجاراة غويتيصولو لباختين نابع من دفاعه عن ديمقراطية الرواية، وإيمانه بتعدد الخطابات فيها، في إطار ما يعرف بالرواية البوليفونية المتعددة الأصوات، والتي تقوم على الحوارية والانفتاح على وجهات النظر المختلفة، بخلاف الرواية التقليدية ذات الصوت الواحد والرؤية الواحدة. يقول غويتيصولو بصريح العبارة: (مثلما بين ميخائيل باختين، في تحليله الرائع لعمل (رابلي)، هناك لحظة يمتزج فيها الواقع بالمتخيل، بحيث تحل الأسماء محل الأشياء التي تحدد، ثم يصير للكلمات المبتكرة وجودها الخاص: فتنمو وتتطور وتتزاوج وتتوالد مثل كائنات من لحم وعظم. السوق والساحة الكبرى والفضاء العمومي، شكلت فضاء مثالياً لتفتقها: تتداخل الخطابات، وتنبعث الأساطير. كان المقدس مجالاً للسخرية، دون توقفه أبداً على أن يبقى مقدساً، والحكايات المتهكمة الأكثر فظاظة، ظلت قابلة للتوافق جداً مع طقس الاحتفال. حكاية محكمة الصنع، تحبس أنفاس المستمع. يمتزج الضحك، بتعبيرات الاغتباط، والبهلواني كما البائع المتجول يستثمران الحكاية، بغية استمالة الناس من أجل تقديم الصدقة). في الخطاب الذي ألقاه غويتيصولو لدى تسلمه لجائزة الأدب الأوربي في 15 أكتوبر 1985 في مدينة بروكسل، أعرب بوضوح عن هذه القناعة، فدافع عن الهوية (الخلاسية) الحافلة بالتقاطعات والعناصر المتعددة، إذ يقول: (إن شغفي واهتماماتي في السنوات الخمس عشرة الأخيرة تركزت في جانبها الأعظم على مناخات أدبية وثقافية إنسانية بعيدة عن كل من إسبانيا وأوروبا حيث أعيش في العادة.. فليس الفضاء الذهني الذي تدور فيه أحداث رواياتي الأخيرة فضاء برشلونة ولا مدريد، وإنما فضاء طنجة وفاس وإسطنبول ومراكش). فالواضح أن الكاتب أصيب بعدوى الاهتمام بالعالمين العربي والإسلامي، ووسع من أفق اهتماماته، وخرج عن سرب أبناء جلدته المصابين بعدوى ازدراء الجنوب والموسومين له بـ(الأفريقية). كما أدار ظهره لميولات أغلبية الروائيين في بلده إسبانيا، الذين كان موقفهم انغلاقياً، بسبب كونهم إما تقوقعوا وانغلقوا على الذات الإسبانية، أو انفتحوا بمحض التقليد على (الواقعية الاشتراكية) أو (النزعة الأسطورية الفولكنرية) أو (الواقعية السحرية) كما هي عند خوان رولفو وغابريال غارسيا ماركيز. أما الكاتب فإن نماذجه الحقيقية في الأدب الإسباني التي يرى أنها تستحق الاحتذاء والتقليد، فهي تكاد تقتصر على خوان رويث )كاهن هيتا( في (كتاب الحب الطيب)، وسرفانتيس في (دون كخوتيه)، لقدرتهما على خلق نصوص ثرية، منفتحة على الثقافات واللغات المختلفة. يقول محمد آيت لعميم عن تماهي غويتيصولو مع نموذج سرفانتس: (لقد تمثل خوان غويتيصولو درس سرفانتس تمثلاً جيداً، سواء على مستوى الكتابة أو على مستوى التنظير، فانحاز إلى الكتابة التي تنبذ الخطية جانباً وتحتفي بالتقطيع والقفز والمراوحة والذهاب والإياب، وتتعايش فيها أنواع القول المختلفة والمتقابلة، السخرية والجد، الحلم والواقع، الهذيان والتأمل). أما تماهيه مع خوان رويث فنابع من تأثر هذا الأخير في كتابه (El libro de buen amor) بكتاب (طوق الحمامة) لابن حزم الأندلسي وتفسيره للمشاعر الإنسانية وفي مقدمتها الحب الرفيع. ويضيف الكاتب الإسباني لوثى لوبيث - بارالت، في كتابه (أثر الإسلام في الأدب الإسباني: من خوان رويث إلى خوان غويتيصولو)، في إطار حديثه عن رواية مقبرة لخوان غويتيصولو قائلاً: (حقاً، إن الصلات التي تربط (خوان غويتيصولو) و(خوان رويث) وحلقيي مراكش قوية وعميقة ويجب أن توضع في الحسبان إذا أردنا الغوص في أعماق هذه الرواية).