أنا أشكّ دائما ً فيما يقوله وزير الدّفاع الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان لأنني كنت أحكم عليه فقط من خلال أعماله. ولكن بالنسبة للفلسطينيين، على أية حال، أن يرفضوا فورا ً ما قاله في مقابلة مع جريدة القدس الفلسطينيّة – أي أنّه يدعم حلّ الدولتين وبأنه قد يرفع حصار إسرائيل عن قطاع غزّة إذا تخلّت حماس عن موقفها العسكري – هو أمر ٌ في أحسن الأحوال يكشف عن قصر نظر ومدمّر ذاتيّا ً. وبرفضها عرض ليبرمان، لن تفعل حماس شيئا ً سوى زيادة تفاقم محنة الفلسطينيين الذين يعيشون تحت حكمها، مفوتة بذلك فرصة أخرى لإنهاء صراع لن تستطيع أبدا ًربحه بشروطها. والقيادة الفلسطينيّة في الضفّة الغربيّة، التي لربّما لأسباب وجيهة لا تثق بليبرمان، كان ينبغي عليها على الأقلّ أن تدعوه لتنفيذ ما قاله إن كان بالفعل يخادع. فبدلا ً من وضع ليبرمان تحت الإختبار، اختارت السلطة الفلسطينيّة شجب ما يعرضه ليبرمان كما لو كان أمرا ً مفروغا ً منه بأنه وحكومته منشغلين بكلّ بساطة في إثارة مواقف عامة. ولكن حتّى وإن كان هذا هو الحال، لماذا رفض أيّ عرض إرتجاليّا ً قد تستغلّه الأحزاب السياسيّة اليمينيّة المتطرفة في إسرائيل لصالحها؟ فالفلسطينيّون – بكلّ بساطة – كما تراه هذه الأحزاب لا يريدون قبول حقّ إسرائيل في الوجود، وأنّ أي شيء خلاف ذلك يصرّحون به علنا ً هو فقط للإستهلاك الدّولي. ونظرا ً لأن كلا الطرفين كان منشغلا ً ولعقود ٍ من الزمن في الإنتقادات العلنيّة ضدّ بعضهما البعض، فقد خلقا جوّا ً من الشكّ المتبادل وعدم الثقة بالآخر. ونتيجة لذلك، فقد أحدثا وبشكل ٍ منهجيّ نفورا ً بين الحكومات الإسرائيلية والفلسطينيّة المتعاقبة وبين الرأي العام على كلا الجانبين، حاكمين بذلك على أية مفاتحة أو إيماءة منذ البداية بالفشل مهما كانت بنيّة حسنة وصادقة. وردّا ً على تصريح ليبرمان، إتهمه وزير الخارجيّة الفلسطيني بأنه ينشر كذبا ً، قائلا ً: "يعلن ليبرمان عن نفسه بأنه يؤيّد حلّ الدولتين في حين أنه يفتخر لكونه مستوطنا ً ويشرّع البناء المتواصل للمستوطنات وتهويد الضفة الغربيّة والقدس الشرقيّة". أضف إلى ذلك، يلوم وزير الخارجية الفلسطيني ليبرمان لمحاولته خلق شقاق بين الشعب الفلسطيني (أي حماس ضدّ السلطة الفلسطينيّة) في حين أنه في الحقيقة لا يستطيع أحد غريب أن ينافس نزوع الفلسطينيين في خلق واستدامة شقاقاتهم الداخليّة. وحيث أنني آخذ ما صرّحه ليبرمان بتحفّظ كبير، فإنني أعتقد أنه ينبغي على السلطة الفلسطينية تحدّيه بعرض بعض الخطوات العمليّة لتبيّن للعالم نواياه الحقيقيّة. ولكن السلطة الفلسطينيّة بدلا ً من أن تفعل ذلك آثرت أن تهاجم جريدة القدس لنشرها المقابلة، عازمة بذلك على خنق أيّ نقاش ٍ شعبي حول مثل هذه القضايا الحرجة، حتّى عندما يكون هناك حاجة ملحّة لتغيير الرواية الشعبيّة اللاذعة. لقد استخلص ليبرمان، شأنه شأن العديد من الإسرائيليين، منذ وقت ٍ طويل بأن الوضع الراهن غير مُستدام. وعندما يتكلّم حول حلّ الدولتين، فإنه لا يروّج بذلك لصالح الفلسطينيين، ولكن للحفاظ على إسرائيل كدولة يهوديّة آمنة. أجل، للفلسطينيين كلّ الحقّ عدم قبول رؤيته حول المعالم الأخيرة لدولة فلسطينيّة مستقبليّة وتركيبتها الديمغرافيّة حيث أنّه – كرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو نفسه – يرى أنّ أية دولة فلسطينيّة مستقبليّة ستؤدي في نهاية المطاف إلى وجود أقلية يهوديّة كبيرة. ولكن إن قبل الفلسطينيّون بمثل هذا الإحتمال أم لم يقبلوا، فإن أي اقتراح للسلام يوضع على الطاولة ينبغي أن يرحّب به، إن لم يكن لأي سبب آخر فعلى الأقلّ لمنع الظهور بأنهم من جبهة الرّفض والتصلّب في المواقف. ولذا فإن أي جهد أو محاولة تُبذل من أيّ من الطرفين لتغيير الرواية الشعبيّة والترويج لعملية مصالحة بين الطرفين من شأنها أن تعزّز الثقة وتخفّف من شعور عدم الإستقرار السائد ويجب ألاّ تُرفض، وبالأخصّ لأنّ كلا الطرفين يدّعي بأنه يسعى وراء اتفاقية سلام على أساس حلّ الدولتين. وفيما يتعلّق بقطاع غزّة، يجب أخذ عرض ليبرمان "بمعناه الظاهري". فأي شخص يدرك موقف إسرائيل بخصوص غزّة يعرف بأن ليس لإسرائيل أي اهتمام أو مصلحة في التورّط ثانية في حرب ٍ عبثيّة أخرى ضدّ حماس، أو إعادة احتلال المنطقة وتحمّل عبء معيشة ما يقارب المليوني فلسطيني. هذا تماما ً السبب الذي جعل رئيس الوزراء الإسرائيلي الر احل، آرئيل شارون، يقرّر إنسحاب القوات الإسرائيليّة من جانب ٍ واحد من قطاع غزّة وإخلاء المستوطنين منه. وعندما قام وزير الدفاع المعيّن حديثا ً، وهو أفيغدور ليبرمان، بدراسة مستفيضة للأخطار أو الكمائن الكامنة وراء حرب ٍ أخرى ضدّ حماس، قرّر كما يبدو أن يسلك نهجا ً مختلفا ً عن نهج موقف القوّة. الدروس التي تعلّمها ليبرمان من الحروب الثلاث الأخيرة بين حماس وإسرائيل كانت مفيدة بما فيه الكفاية لتخبره بأنه حتّى لو قام "بقطع رأس" قيادة حماس، لن يكون هناك نهاية للمقاومة الفلسطينيّة المنبثقة من غزّة، وأنّ الحصار ليس الردّ ولن يكون الردّ أبدا ً. ما يعرضه ليبرمان على حماس الآن هو عملي من وجهة النظر الإسرائيليّة وحتّى عمليّا ً أكثر من وجهة نظر حماس. ففي الوقت الذي تريد فيه حماس أن تقوم إسرائيل برفع الحصار، ما زالت تريد أن تكون في وضع ٍ تهدّد فيه وجود إسرائيل ذاتها. والوهم الذي ما زال يتملّك من قيادة حماس هو أنها في يوم ٍ ما وبطريقة ٍ ما ستكون قادرة ً على تدمير إسرائيل، هذا بالرّغم من علمها جيّدا ً بأنها لن تستطيع لا الآن ولا في أيّ وقت ٍ في المستقبل أن تأمل في تشكيل تهديد ٍ على وجود إسرائيل وتعيش لرؤية ذلك اليوم. تعيش الأغلبية الساحقة من سكان قطاع غزة البالغ عددهم المليونا نسمة في فقر ٍ مدقع. ليس للشباب منهم مستقبل وكبار السنّ قانطون وجازعون، والكلّ رهائن لدى حماس لخدمة مخططاتها الوهميّة. وتبعثر حماس إبان ذلك مئات الملايين من الدولارات لشراء المزيد من الصواريخ وبناء الأنفاق والإستعداد للحرب القادمة التي تعد بإحلال المزيد من الدمار الذي لن ترى حماس شبيها ً له. من الحكمة لحماس أن تأخذ تحذير ليبرمان بمحمل الجدّ عندما قال: "إذا فرضوا (يعني قيادة حماس) على إسرائيل الحرب القادمة، فإنها ستكون حربهم الأخيرة". ولكنه استطرد يقول: "إذا أوقفت حماس حفر الأنفاق وإعادة التسليح وإطلاق الصواريخ، فإننا سنرفع الحصار ونبني المطار بأنفسنا". هذه ليست إيماءة بلاغيّة من جانب ليبرمان، ولكنه يركّز على عمليّة مصالحة من طراز "حكومة لحكومة" وهو شرطً لا غنى ً عنه للتوصل لاتفاقية سلام ٍ دائم في وقت ٍ لاحق. إنني أؤيّد تماما ً فكرة أنّ الظروف على أرض الواقع ليست مواتية لحلّ جميع القضايا المتنازع عليها بين الطرفين. ينبغي أوّلا ً البدء بعملية مصالحة وهنا يجب أخذ عرض ليبرمان في هذا السياق، وهي الطريقة الوحيدة التي قد تمكّن الفلسطينيين من تحقيق طموحاتهم في إقامة دولة لهم في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة. وبالنظر لسجلّ ليبرمان في الماضي وتصريحاته العلنيّة المعادية للفلسطينيين، لديهم بلا شكّ أسباب وجيهة ليكونوا متشككين للغاية في كلّ ما يقوله ليبرمان أو يفعله. والكرة الآن في ملعب ليبرمان ليبرهن بأنه صادق في عرضه للفلسطينيين. ولإضفاء المصداقيّة على خططه وعلى التنازلات التي يستعدّ للقيام بها، ينبغي على ليبرمان أن يشرك في هذا الأمر تركيا وقطر ويحثهما على استخدام نفوذهما على حماس لإقناعها بألاّ تتخذ موقف رافض إزاء "مفاتحته". ونفس ما ذكر آنفا ً يمكن أن يقال حول إشراك بعض الدول الأوروبية، وبالأخصّ فرنسا وبريطانيا، في لعب دور ٍ بنّاء بين الطرفين. سيضع هذا النهج إسرائيل في موقف س أفضل لأنها في محلّ انتقاد بشكل ٍ منتظم من قبل الإتحاد الأوروبي على أنها الطرف العنيد في الصّراع. أضف إلى ذلك، في حالة قبول حماس عرض ليبرمان ستفتح الباب لإزالة حماس من قائمة المنظمات الإرهابية، الأمر الذي بدوره سيشجّع العديد من الدول، وبشكل ٍ خاصّ في الإتحاد الأوروبي، للإستثمار في قطاع غزّة وسيتحوّل القطاع في غضون بضعة سنوات من إقليم ٍ فقير مُعدم إلى كيان مزدهر. ما نحتاجه الآن هو زعيم قوي وحازم للسير ضدّ التيار. وسيتمكّن الفلسطينيّون فقط بإشراك ليبرمان ليس فقط من اختبار مصداقيته بل وأيضا ً من تغيير نهج صراع ٍ دام حتّى الآن سبعة عقود من الزمن ومن شأنه – إن استمرّ – أن يدمّر الجميع. د. ألون بن مئير أستاذ العلاقات الدولية بمركز الدراسات الدولية بجامعة نيويورك ومدير مشروع الشرق الأوسط بمعهد السياسة الدولية