في بلاد الشام تننتشر حكاية دائرية قديمة، ترويها الأمهات لأطفالهن وطفلاتهن قبل النوم. تقول الحكاية: الأم: هل أحكي لك حكاية إبريق الزيت؟ الطفل: نعم. الأم: إذا قلت نعم أم قلت لا، فسوف أحكي لك حكاية إبريق الزيت. هل أحكي لك حكاية إبريق الزيت؟ الطفل: لا. الأم: إذا قلت لا أم قلت نعم، فسوف أحكي لك حكاية إبريق الزيت. هل أحكي لك حكاية إبريق الزيت؟ ويستمر الحوار في الحكاية على هذا النحو العبثي الى ما لا نهاية حتى يصاب الطفل بالضجر وينام. لو سمع صمويل بيكيت ويوجين اونيسكو، رائدا مسرح العبث الحديث، هذه الحكاية، لعرفا أننا نعيش مسرح العبث ونروي حكاياته قبل أن يرى مسرحهم النور بزمن طويل. وعلى رغم أن مشاهد العبث واللامعقول صارت تزاحم بعضها بعضاً في العالم العربي، فإن مشهد الانقسام الفلسطيني - الفلسطيني يكاد يكون في الصدارة. لم يعد أحد معنياً بمتابعة أخبار المصالحة الفلسطينية - الفلسطينية، بل الغالبية المطلقة من الفلسطينيين أنفسهم لا تفهم كنه لقاءات المصالحة الدورية تلك ولا مراميها. من المعروف أن ما تُطلق عليه حركة حماس في غزة تعبير «الحسم»، تُطلق عليه السلطة في رام الله تعبير «الانقلاب». وبغض النظر عن المسميات، فالواقع يقول إن هناك انفصالاً شبه كامل بين قطاع غزة والضفة الغربية. في الحقيقة، ليست النزعات «الشوفينية» بين الفلسطينيين جديدة، فلقد كادت الاصطفافات، على أساس إقليمي، تعصف بوجود حركة فتح نفسها عندما جرى الانشقاق فيها بُعيد الخروج من بيروت. وكان للانشقاق طابع إقليمي لا تخطئه العين ولا الحسابات الجغرافية، عندما اصطفت غالبية القيادات «الضفاوية»، وتحديداً من مدينة الخليل، الى جانب الانشقاق بينما اصطفت غالبية القيادات «الغزاوية» ضده. حينها، عبّر الانشقاق، الى جانب أبعاده السياسية والتدخل السوري فيه، عن الامتعاض الذي كانت تستشعره قيادات الصف الثاني تجاه قيادات الصف الأول الذين كانوا كلهم أو في غالبيتهم المطلقة من غزة. عند حدوث الانشقاق، أشار كثيرون الى أن الانشقاق هو في المحصلة النهائية ليس أكثر من «تمرد» أو «أنتفاضة» من طرف «الجناح الضفاوي» ضد هيمنة «الجناح الغزواي» على المواقع المتقدمة والأملاك والامتيازات الثورية. غير أن الكاريزما القيادية لياسر عرفات استطاعت استيعابها ومعالجتها. بعد أوسلو، صارت غزة هي المركز السياسي والإداري والمالي للسلطة الفلسطينية وذهبت حصة الأسد من المعونات التي تقدمها الجهات الدولية لتنمية غزة المهمشة والفقيرة والتي كانت تتبع سابقاً الإدارة المصرية. لم يلغ الواقع الذي نشأ إثر أوسلو التناقضات الفلسطينية ولم يؤجلها، بل فاقمها وعمقها، إذ بدأت النخبة المالية والاقتصادية والسياسية «الضفاوية»، والتي تتمتع بعلاقة متميزة مع البيروقراطية الأردنية، بجردة حساب تتعلق بقائمة الربح والخسارة، حيث توصلت الى نتيجة مفادها أن خسائرها من اتفاق أوسلو كانت أعلى من أرباحها. وشاءت الأقدار السياسية أن ينتقل مركز السلطة الى مدينة رام الله، حيث وقع زمام المبادرة بين أيديها، فأخذت تسحب، تدريجياً، البساط من تحت أقدام «اللوبي الغزاوي»، في كل من فتح والسلطة على حد سواء. وبموت الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، وصلت الأزمة الى ذروتها بين الطرفين، فتم تعيين الرئيس الفلسطيني الحالي، القادم من الجليل الأعلى، كحل وسط بين الطرفين المتنازعين. لكن مجيء رئيس، لا ينتمي الى أي من الجغرافيتين السابقتين، لم ينزع فتيل الأزمة بل فجرها. خلق واقع تمركز البيروقراطية الفلسطينية الجديدة، في الضفة الغربية، في شكل نهائي، معادلة قوة جديدة دفعت أطرافاً عدة إلى الرد في محاولة لتصويب التوازن. بدايةً، كان الرد، على ما اعتُبر تهميشاً لغزة عن مراكز القرار الفلسطيني، من طرف حماس ثم تبعه رد آخر من طرف ما يسمى «تيار دحلان». وعلى رغم التناقض البين والأكيد بين التيارين، فإن النخبة الضفاوية رأت فيهما تيارين يشتركان في الدعوة إلى تقاسم السلطة بين قطاع غزة والضفة الغربية، الأول داخل منظومة الحكومة والثاني داخل حركة فتح. لقد وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه، وقد يحتاج الوضع القائم إلى معجزة سماوية لجسر الهوة ورأب الصدع بين الجغرافيتين. بل إن هناك من يعتقد بأن الرئيس الحالي هو الخيط الوحيد الذي يربط الجغرافيتين معاً، فإذا ما انتقل الى دار الغيب، فسوف ينقطع بينهما ما اتصل. مجمل القول إن للانقسام الفلسطيني - الفلسطيني بُعداً مسكوتاً عنه هو ما يتعلق بنزعة شوفينية إقليمية ومناطقية ترفض الجهات ذات العلاقة التصريح بها أو الإعلان عنها. وليست النزعة الشوفينية المرضية مقصورة على جهات بعينها فقط بل تشمل أيضاً، في ما تشمل، نزعات التمييز تجاه «الفلاحين» وأبناء «المخيم» و «المهاجرين». هذا ناهيك عن الإقصاء الواضح لفلسطينيي الجليل، في سورية ولبنان والشتات، عن كل منصب إداري وسياسي في المؤسسات الحزبية أوالحكومية. تواصل أطراف الانقسام الفلسطيني التحايل على الواقع وكنس الأوساخ تحت السجادة، بغية إخفائها، أو خوفاً من نشر الغسيل الوسخ أو مواجهة الحقيقة الدامية والنزعات المرضية المدمرة التي تعمل على تفتيت وحدة الشعب الفلسطيني في شكل منتظم. إن عدم اعتراف المريض بمرضه لايشفيه، بل قد يقتله. * كاتب فلسطيني