×
محافظة الجوف

بلدية القريات تستقبل طلاب ثانوية الأمير بدر بن عبدالعزيز

صورة الخبر

لا يوجد في إسبانيا فن يتجاوز عمل الكيخوتي، ورواية الكيخوتي ليست إبداعاً على الطريقة الإسبانية، بل هي عمل مميز لنا، لأن سيربانتيس لم يقتنع فقط بأنه مستقل، بل كان كذلك من الفاتحين، وكان أعظم فاتح، لأنه إذا كان الفاتحون الإسبان فتحوا بلداناً أخرى وضموها لإسبانيا، فإن سيربانتيس فتح إسبانيا لنفسها، وهو أسير في سجن. عندما بدأ سيربانتيس يفكر في عمله، كان يسكن بداخله عبقري عظيم، ولكن خارجه لم تكن توجد غير شخوص تتحرك بحدس إلهي، بعد ذلك يأخذ تلك الشخوص ويحركها إلى الأمام، كصاحب الحمير التي يحركها بأصوات فاقدة لمعنى الحب، مختلطة بضربات قضيب متساوية ومناسبة. لا تبحثوا في مهارات وحيل الكيخوتي. كتب نثراً، مثل تلك القصائد للشعراء الصوفيين الغربيين، التي تصلح للقراءة من النهاية إلى البداية، لأن كل بيت فيها هو إحساس طاهر وغير مرتبط بالآخر، كفكرة أفلاطونية. (أُولِيس) الإسباني هو (دون كيخوتي) وفي دون كيخوتي نلاحظ من النظرة الأولى تحول روحي. هذا الشخص طهر نفسه، ولكي يتحرك كان عليه أن يتحرر من ثقل الانشغالات المادية وإفراغها على حامل سلاحه سانشو بانثا، وهكذا سيسير متحرراً من جميع الموانع، وعمله كان إبداعات لا تحصى، أعجوبة ومعجزة إنسانية، حيث سيتجسد فيه كل ما هو مثالي، ويمكن إدراكه. دون كيخوتي لم يوجد في إسبانيا قبل الحقبة العربية، بل وجد بعد مرحلة حرب الاسترداد. ومن دون العرب فإن (دون كيخوتي) و(سانشو بانثا) سيكونان رجلاً واحداً، محاكاة للسخرية. دون كيخوتي وحامل سلاحه (شانشو بانثا) يمثلان الثنائية المتناسقة التي جعلتهما فريدين ومتوحدين، الرمز الأبدي للإنسانية عامة ولشعبنا الإسباني بشكل خاص. وعموماً، مع جهل المثالية (سانشو- بانثية)، المثالية السامية للإنسان البسيط، العادي، العاقل الذي لم يفقد عقله، ومع ذلك يتبع المجنون، وإيمانه بالمجنون منحه الأمل بحكم ولاية صغيرة. ألفنا الاهتمام بدون كيخوتي وعبادة الكيخوتية، دون أحكام مسبقة تسخر منه، إذ بسببه تخلفنا وأُنهكنا. الداء هو اضطراب عادي في الوظائف الفيسيولوجية، ونادراً جداً ما يحطم هذه الوظائف. الجنون هو خلل في العقل، يحدث به اضطراب، ولكن لا يحطمه، فكل مجنون هو مجنون في عقله، وفوق أعماق هذا الهذيان، يحافظ على مزاجه، عندما يفقد عقله القوي غير القابل لتدمير طابعه وعمقه المعنوي. وهكذا حافظ (دون كيخوتي)، تحت فقدان الصواب وهذيان خياله الضال بسبب قراءته للمؤلفات الملعونة، والتي كان لها تأثير معنوي على الصحة المعنوية لـ(ألونسو إل بوينو)، وهذه العافية يجب البحث عنها فيه. هي التي أوحت له تعقله الجميل مع رعاة المعز، وأملت عليه حيثيات العدالة السامية، في تحرير البحارة المحكوم عليهم بالسجن. لكن يحدث بسبب أخطائنا، بأن يرمز في إسبانيا لدون كيخوتي دائماً عندما يسرع إلى المطاحن الهوائية، أو حين يعمل مع رهبان مسالمين تابعين للقديس (سان بينيتو)، أو لمهاجمة فارس جديد من (بيسكايا)، بدون معنى أو سبب معقول. يستحسن إذن، النظر في العمق اللاأخلاقي للكيخوتية الجنونية. القراءات المتمادية في غيها من الكتب الكاذبة حول الفروسية، الخساءة الأخيرة لذلك الحيوان الهجين من الوثنية الواقعية والمسيحية الظاهرة التي سميت كتب الفروسية المثالية؛ تلك القراءات أوقدت في الشريف الغرور والخيلاء النائم في بئر روح كل إنسان. كان يريد أن يخلد في التاريخ وأن يغنى به في القصائد الشعبية، وكان يحسب نفسه أحد خلفاء الرب في الأرض وذراعاً ينفذ بها (عدالته)، وبذلك الأسلوب خدعه العدو بمظلة العدالة واستطاع فرض روحه، ويقوم كحكم على الرجال الآخرين. عندما برهن له (بيبالدو) بألا يتذكر الفرسان المتجولين قبل الرب وقبل زوجته، التي تهرب من الجواب النهائي. هذا هو التفكير العقلاني الصائب، (دون كيخوتي) المتعب والمنهزم من طرف فارس (بلانكا لونا)، عليه أن يرجع إلى قريته، رافضاً أحلاماً تحولت إلى رعوية وإن تحولت إسبانيا إلى معلمة قديمة، والتي تتأهب لتموت، مستعدة مع الشريف الهادئ (ألونسو إل بوينو). حقيقة يموت، وحقيقة أنه عاقل (ألونسو كيخانو إلبوينو) خرج مستغرباً القس عندما قام (دون كيخوتي) باعترافاته الأخيرة حول ذنوبه، وخطاياه وحماقاته. وهذا ما نرجو أن يقال عنا. هل يجب أن تموت إسبانيا لتعود إلى عقلها؟ يستعجب أحدهم. يجب إذن أن يموت (دون كيخوتي) ليولد من جديد الشريف الهادئ الذي يحتال على موقعه، وعلى أملاكه الخاصة، وإذا كان الرد بأن الشريف (ألونسو) نفسه مات عندما استعاد عقله، إذ ذاك سأستنتج بأن اندثار الأمم كأمم أصبح قريباً مما كان يحسب عليه سابقاً -فليس هباء أن تعمل الكيخوتية- وتتمكن من الاستعداد كل واحدة منها لاستقطاب التراث الموحد للشعوب والخالص، أي يعني مسيحية شعبنا التامة. العقل الذي اخترق روحنا الوطنية ووصل إلى أعماقها، هو سيربانتيس، الذي أدرك بطريقة حية هذا الشذوذ الذي تتميز به صفتنا، وفي كتابه الخالد ميز بصفة مطلقة بين العدالة الإسبانية والعدالة العادية للقوانين والمحاكم: الأولى جسدها دون كيخوتي، والثانية جسدها (سانشو بانثا). إن الأحكام القضائية المعتدلة الوحيدة والحكيمة التي نجدها في رواية دون كيخوتي، هي التي أصدرها (سانشو بانثا) خلال حكمه لجزيرته الصغيرة، بينما كانت الأحكام التي أصدرها دون كيخوتي تتميز ظاهرياً باللامعقول، وفي نفس الوقت كان عادلاً في إصدار أحكام جداً مهمة: أحياناً كان يخطئ في الوثائق وكل مغامراته كانت تصحح الأخطاء للحفاظ وإقرار العدالة في العالم، وعندما كان يقف على أحبال المساجين المحكوم عليهم بتجديف السفن الكبيرة، ويجد بينهم مجرمين فعليين يسرع لإطلاق سراحهم ومنحهم الحرية، إن الأسباب التي تدفع دون كيخوتي لتحرير هؤلاء المحكومين بالسفن الكبيرة، هو خلاصة كانت تغذي التمرد الإسباني ضد العدالة الوضعية. بالنسبة إليه يجب النضال من أجل أن تسيطر العدالة في العالم، ولكن ليس هناك قانون صارم ودقيق لإنزال العقاب بمرتكب جريمة طالما هناك آخرون يفلتون من فجوة القانون، وفي النهاية فإن الحصانة العامة تتوافق مع الطموحات النبيلة والكريمة وحتى ولو كانت ضد الحياة العادية للمجتمعات، بقدر أن عقاب البعض وحصانة البعض الآخر هما سخرية مبادئ العدالة والشعور الإنساني في نفس الوقت. لهذا نلجأ إلى رمزية (دون كيخوتي)، ونعبر عن الاعتقاد بأن العبقري الشريف كان سيستعيد عقله وصوابه وسيموت، متأسفاً عن حماقاته. هذه كذلك فكرتي، وإن كنت أنا لم أتوقع شفاءه في القريب. إسبانيا أمة عبثية وغير معقولة، وميتافيزيقيا مستحيلة، واللامعقول هو عصبها وسندها الأساسي. فسلامة عقلها ستكون علامة على نهايتها. لكن أين نرى (دون كيخوتي) يعود منهزماً أمام فارس (بلانكا لونا)، فأنا أراه يرجع مضروباً بعصا (اليونغيين) القساة الذين صادفهم لسوء حظه.