عندما نتحدث عن عمل أدبي فنحن نبحث عن عمل بني باللغة وبتصاميم معينة. عمل يعبر عن ذات الكاتب وعن الذوات التي يتقمصها الكاتب ليصور واقعا دراميا. نحن إزاء وجود مادي ولكنه مفعم بالروح. وجود له أسلوبه الذي يميزه عن غيره، وله مفرداته اللغوية والفنية. نحن أمام عمل أدبي يستدرجنا إلى البحث عن المعانى المغلفة بصياغات فنية متعددة، عمل يضعنا أمام الفكرة عبر الكشف عن شفرات يضعها أمامنا الكاتب تؤدي إلى ما يتخفى. نحن أمام لغة لا تشبه غيرها، أمام فكرة قد تكون أصيلة أو هي انطباعات وصياغات للواقع الملموس. وقد اعتمد كمال الرياحي في "المشرط" و"عشيقات النذل" على فنون وعلوم إنسانية مثل السينما للتعبير بالصورة واعتماد المونولوج، وعلم النفس وعلم الجريمة، وللنص منطقه الداخلي وهو يستحوذ على أدواته الفنية والفكرية التي ينهل منها، إذ نحن أمام نصوص بمثابة مشاهد سيناريو ومونولوج باطني وقص بوليسي وتهويمات نفسية. وردت مقطعة منصهرة في وحدة عضوية تجمع مقاطع وأجزاء العمل الأدبي. وتضعنا روايات الرياحي وجها لوجه أمام الجريمة، ولكنها تبرز دوافع الجريمة عند كل الشخصيات بدون تمييز، وفي الوقت نفسه فهي لا تفصح عن المجرم. نحن أمام روايات لا تتوارى فيها الشخصيات بل لا تغادر بمجرد الانتهاء من القراءة. إنها مثل الشخصيات التي تباغتنا في الأحلام ليس بإمكاننا القبض عليها وليس بإمكاننا أن نحاكم بذاءتها وجرائمها، ففي اللاوعي يمارس الجميع أبشع أشكال التنكيل من الآخرين وفي الأحلام والتخيلات تبرز شخصيات كابوسية قادرة على التنكيل بالذات وعلى اقتراف أعمال عنف. •حبكة بوليسية والمستنطق هو اللاوعي الذاتي والجماعي غذى كمال الرياحي أدب الكوابيس بالجريمة، اذ تجد الجريمة لنفسها مكانا في رواياته، فقد اشتغل على "الشلاط" في رواية "المشرط" الذي ظهر في العشرية التي سبقت الثورة في المجتمع التونسي ثم اختفى دون أن يعثر له على أثر مخلفا أسئلة ملغزة. كما تناول شخصيات سادية في روايته "عشيقات النذل" هي نتاج لشخصيات واقعية ظهرت في تونس بعد الثورة، وتلذذت باقتراف العنف ولها رواسب متطرفة. محاولا أن يبني أعماله الروائية على حبكة بوليسية دون أن يضع القارئ أمام الحقيقة مباشرة. فهذه الروايات تسرد من خلال شخصيات تكتب مذكرات وتعبر عن حالات نفسية ومزاجية أقرب إلى الجنون والانفلات، حتى أن القارئ لا يدرك إن كانت هذه الشخصيات تصور خيالها أو واقعها بل هي بصدد تصوير كوابيسها. ويتجاوز الروائي كمال الرياحي القص البوليسي الكلاسيكي الذي يضعنا أمام شخصية محقق يبحث عن آثار الجريمة ويستمع إلى شهادات وروايات مختلفة عن الضحية وعن علاقاتها السابقة. في ابتعاد واضح عن أساليب القص البوليسية المعروفة مثل "جرائم شارع مورغ لادغار آلان بو" أو آرثر كونان دوبل صاحب شخصية شارلوك هولمز المعروفة عالميا. وإنما تشكل الرواية مجموعة مشاهد عثر عليها، كتبتها شخصيات الرواية، ففي "عشيقات النذل" يحصل المحامي ايفو على دفتر الروائي كمال اليحياوي من مستشفى السجن بعد اتهامه بقتل ابنة زوجته. وفي الدفتر سيرة ذاتية للراوي ولما يجول في خياله وكوابيسه ومكاشفاته النفسية. أما في "المشرط" فنحن إزاء اعترافات وكتابات إبداعية ورؤى وكوابيس يخطها بولحية على دفتره تحت تأثير الصداع والحمى. ولجأ الروائي إلى أسلوب كتابة السيناريو وتقطيع المشاهد لكي لا يضع نفسه في صورة الراوي العليم، بل جعل الشخصيات تعبر عن نفسها، ودورها هو تقديم هذه الشهادات بأسلوب مشوق. وصبغ عمله بالإثارة وإذكاء الغموض الفني والإلغاز وما على القارئ إلا أن يتحول بدوره إلى محقق أو خبير بعلم النفس الجنائي لأن هذه الروايات لا تحل لغز الجريمة وتضع الاعترافات أمام القارئ ولكنها تكتب خيال الشخصيات. وفي نفس الوقت هو يجد لكل شخصية دافع لاقتراف الجريمة ودافع لتبرئة نفسه وهنا يقترب من اسلوب اجاثا كريستي. نحن أمام روايات بوليسية. نحن أمام جرائم. البحث عن الشلاط في "المشرط" والبحث عن قاتل سارة في "عشيقات النذل". وعوض أن يتوخى الراوي أسلوب القص البوليسي عبر استنطاق أقوال الشخصيات هو يعمد إلى كشف عوالمهم الباطنية من خلال كتاباتهم وتخيلاتهم ومكاشفاتهم وكذلك حيلهم النفسية فيما بينهم لعدم كشف أنفسهم، فنحن إزاء شخصيات مهيأة نفسيا واجتماعيا لاقتراف الجريمة، وكل طرف له دافع لا يمكن مقاومته ولكنه يلقي التهمة على غيره حتى من خلال كتابة مذكراته. وبذلك يكون حجم التشويق مضاعفا، فما إن يمسك القارئ بخيط حتى يتلف خيط. هي روايات محملة بالشفرات ولا تحل اللغز بل تخلق حيرة وتترك النهاية معلقة. ليس الخطاب الشعوري هو فقط مظهر من مظاهر التعبير عن الجريمة بل هناك خطاب لا شعوري وهناك حركات وإيماءات وهناك لغة الصور وهي لغة التذكر والمذكرات، وصور الحلم. أمام سطوة الصور المتخيلة والصور المؤثرة بل إن الصور المتخيلة هي دوافع لفكرة أو معنى يراود الذات في الواقع أو على الورق أو في الفن. وذكرياته مع الألوان مثلما هو شأن السيارة الحمراء والولاعات الصفراء في "عشيقات النذل" ووقعها على نفسيات الشخصيات الذكورية. وبين العملين الروائيين، عمل كمال الرياحي على تصوير شخصيات لها عيوب جسمية أو تعاني من العنصرية مثل النيقرو في "المشرط" وكمال اليحياوي في عشيقات النذل في مجتمعات يميز الأشخاص على أساس الهيئة الفيزيولوجية، ولعب على خلق اضطراب في الشخصية من خلال الوشم الذي كتبه علي شورب على وجه النيقرو، والموشوم على كتفه في صورة ثعبان، والتهديد الذي تعرض له كمال من لطفي بوخا مخبر المدينة بإحداث ندبة على وجهه. كذلك صور العيوب النفسية والمزاج الحاد معتمدا على نظريات "لومبرزو" في علم الاجرام. وحين يصور حركات هذه الشخصيات وهي تتسم بالبرود والشر والتسلح بآلات حادة أو جعل الشاقور كتحفة في منزل ايفو عنصرا من عناصر الجريمة، فهو يبرز الدوافع والالات، ويصور الهيئات الخارجية للمنحرفين مثل علي شورب ولطفي بوخا. مصورا شذوذهما الغريزي لاقتراف جرائم عنف. ويصور بيئات تغيب فيها القيم الاخلاقية والاجتماعية الرادعة. بل المجرم هو مشروع مخبر يمسك بتلابيب المدينة. وبما أن الشخصيات في" المشرط" أو عشيقات النذل تحمل دوافع الإجرام، والمجتمع خير حاضن لهذه الجريمة فهي جزء من منظومة لا بد منها والشخصيات غير السوية هي جزء منه، ومن بيئاته المتفرقة في الأحزمة والمندسة في المدن وفي الخمارات والمقاهي والمواخير والأقبية والبيوت المنعزلة، بيوت الدعارة والأماكن المظلمة. فهو يكشف عن مجتمع مريض طالما أن كل شخصياته مشاريع مجرمين. •كتابة اللاوعي بالصورة اعتمد كمال رياحي في "المشرط" و"عشيقات النذل" على الكتابة بالصورة في حالات التصور الذاتي لشخصيات الرواية، حيث تحضر الصور عند تذكر العديد من المشاهد الطفولية، وتحضر الصور في حالات تخيل أعمال عنف نحو شخصيات أخرى، وتحضر الصور في الأحلام والكوابيس، وتحضر الصور في أحلام اليقظة، تحضر الصور لتعبر عما تعيشه الشخصيات من اضطرابات. أحيانا تكون الصورة لقطة أو مشهد وأحيانا لقطات قريبة أو بعيدة أو متوسطة، كما اشتغل على خلفية الصورة. لذلك فإن كتابة الصور مقترنة بفن التصوير، فقد عكس من خلال المشاهد خيالات وظلال الأشخاص ولما يجول في أذهانهم عبر الصور المرعبة، ففي تعبيره عن شخصيات تخلو من المثل والقيم وتحمل دوافع الجريمة، لم يصور لنا أماكنَ تتسم بالتناسق والجمال بل صور زائفة على حد تعبير افلاطون لا تشبه المثل. إن الاشتغال على المجال الباطني للشخصيات ما جعلها تستحضر الصور المحسوسة وتخيلها في الذهن وبدت هذه الصور كأشباح بل كأقنعة وكأننا إزاء شخصيات تنكرية ترصد أطياف مشاعرها بكثير من الوحشية والشذوذ والظلال لرصد الجوانب المظلمة في النفس. كذلك حال بولحية في "المشرط" مع تمثال ابن خلدون الذي صار يروي له سير شعوب أخرى. كذلك الاشتغال على اللوحة في "عشيقات النذل" من خلال لوحة مركيز الموترة التي يرمقه من خلالها بعين سددت عليها لكمة ما جعل دافع تحطيم الصورة أمرا ملحا فهي تعكس رغبات الشخصيات في العنف، إنها تذكر بما تركته في الواقع من مشاعر الحقد والكراهية. لأنه اعتمد على الازدواج في التعامل مع الصورة داخليا وخارجيا ومدى تأثيرها.