جلال الدين محمد أكبر هو من دون شك أعظم سلاطين المغول الذين حكموا الهند من 1526 حتى 1875. ولأن حياته المملوءة بالرؤى والإنجازات تُقرأ مثل رواية، لا نعجب من استقاء الكاتبة والمؤرّخة الفرنسية كاترين كليمان منها مادّة روايتها الأخيرة، «انخطافات المغولي الكبير»، التي صدرت حديثاً عن دار «سوي» الباريسية. لمن يجهل السلطان أكبر، نشير إلى أنه تربّع على عرش السلطنة المغولية من 1556 إلى 1605، ووسّع رقعتها حتى شملت ولايات غوجارات والبنغال والسند وباكستان وبالوشستان وأفغانستان وكشمير، قبل أن يضم جنوب القارة الهندية إليها. خلال فترة حكمه، تخلّص الشعب الهندي للمرة الأولى في تاريخه من لعنة الجوع، ونَعِمَ، للمرة الأولى أيضاً، بحرّية العبادة. ولعل ولادة أكبر من أب سنّي (السلطان همايّون) وأم شيعية (الأميرة حميدة بنت علي أكبر جامي) تفسّر جزئياً انفتاحه وتسامحه الكبيرين اللذين يتجليان في زواجه بفتاة هندوسية وتركها على دينها، وفي تشييده في قلب الصحراء مدينة فتحبور سيكري الشهيرة التي تضمّنت معابد لمختلف الأديان وتميّزت مبانيها وصروحها بتزاوجٍ بين الهندستين الإسلامية والهندية فريدٍ من نوعه في التاريخ الإسلامي. وإذ نـــذكر هذه العــنــاصر التاريخية حوله فلمشاركتها في حبكة رواية كليمان التي تكمن قيمتها خصوصاً في تركيزها على مسيرة هذا السلطان وشخصيته الفريدة. وفعلاً، يتبيّن لنا في هذا العمل أن أكبر لم يكن يتقن القراءة ولا الكتابة، لكنه كان يملك ذاكرة مدهشة سمحت له بحفظ ليس فقط القرآن الكريم عن ظهر قلب، بل أيضاً كل ما كان يُقرأ أو يقال أمامه. ومنذ ولادته، تجلّت لديه قدرة خارقة على شفاء الآخرين، في موازاة نوبات الصرع التي كانت تنتابه بانتظام، واختبر خلالها انخطافات ورؤى روحية لعبت دوراً محورياً في سلوكه وتطلّعاته النبيلة. خلال نوبته الأولى، التي تنطلق بها أحداث الرواية، وتحصل خلال رحلة صيد، تتراءى لأكبر فتاة ترضع شادِناً (ولد الظبي) وفتى صغيراً يتقدّمان نحوه. رؤية تدفعه فوراً إلى إيقاف هذه الرحلة وإصدار قرار بمنع ممارسة الصيد في السلطنة وسفك دماء أي كائن حيّ، وذلك على رغم عشقه هذه الرياضة. أما نوباته اللاحقة - أو بالأحرى انخطافاته - فلن تلبث أن تعزّز حلمه الأكبر داخله، أي توحيد ديانات الهند بهدف تمكين كل فرد من رعاياه من العيش بسلامٍ وتناغمٍ مع جاره، وبالتالي كي يوجّه هؤلاء الرعايا اندفاعٌ ديني واحد إلى الله الواحد، لكن ضمن حرية كاملة في التعبّد. ولتحقيق هذا الحلم الطوباوي، نرى أكبر على طول الرواية يسعى إلى وضع أسس فلسفة دينية تجمع أفضل ما في تقاليد الهند الروحية، بمساعدة وزيره الوفي والمتنوّر أبو الفضل. ومن هذا المنطلق، يؤسس «دار العبادة» لعقد المناظرات بين ممثّلي مختلف الديانات. مناظرات يدعو إليها علماء من الطائفة السنّية وملالي من الطائفة الشيعية وكاهن الديانة الهندوسية الأكبر وممثلون عن مختلف المذاهب الصوفية وحاخامات من ولاية كوش وكهنة من الديانتين اليانية والزرادشتية، إلى جانب عجوز هندوسي فقير اعتنق حديثاً الإسلام، وثلاثة رهبان يسوعيين أتوا إلى الهند. ولعل أفضل تلخيص لهدف أكبر من تأسيس هذه الدار، هو ما يقوله بنفسه لدى افتتاحها: «أنا، ملك الملوك، أعلن افتتاح دار العبادة كي تُناقش بحرّية حميع معتقدات السلطنة، وكي تُقارَن مبادئ الإيمان والديانات، وأيضاً الأدلة والبراهين التي ترتكز عليها، بطريقة تمكّننا من فصل الذهب والفضة عن المعادن العادية». وعن دافع إطلاقه هذا المشروع، يقول أكبر: «نستنتج بأسفٍ وجود مسارات دينية عدة، واعتقاد أتباع كل مسار أن مسارهم هو الأفضل. من عدم إيماننا بإلهٍ واحد، ومن عدم تشارُكنا الأفكار نفسها، ينبع الاحتقار والتقاتل». لا لزوم طبعاً للقول بأن هذه المناظرات ستتّسم بسخونة شديدة وتخلّف عنفاً وصراعات ومؤامرات كثيرة. لكن ما تجدر الإشارة إليه هو أن الروائية، بموهبتها السرديـــة الكــبـــيـرة ومعرفتها العميقة بهذه الحقبة من تاريخ الهند، تضفي على الدقة التاريخية التي تميّز سرديتها لمسةً منيرة لا تخلو أحياناً من طرافة معبّرة. فبمتعةٍ كبيرة نتعرّف معها إلى نزوات المـــناظـــرين (كرفض الكاهن الهندوسي الأكبر الجلوس على الأرض، مثله مثل الآخرين، فيُخصَّص له مقعد من خيزران لإرضائه)، ونتخيّل أزياء رعايا السلطان التي تتراوح بين عري كلي لكاهن ياني وتنّورة من شاش مطرّز بالزهور يعلوها قميص من حرير أخضر لقائد الجيش، ونطّلع على ترف بلاطه، أو نرافقه في رحلاتٍ مشوّقة على ظهر فيله المفضّل. لكن أكثر ما يشدّنا في رواية كليمان هو وصفها المسترسِل، والمبني على وثائق تاريخية، لتلك العلاقة الوثيقة التي ربطت أكبر بالرهبان اليسوعيين الثلاثة. علاقة يتجلى فيها تسامحه ورحابة صدره، خصوصاً تجاه الراهب رودولفو الذي تتّسم مواقفه بالتزمّت وقصر النظر، كما يتجلّى فيها افتتان هؤلاء الرهبان به، خصوصاً الراهب الحكيم مونسيرّاتي الذي لن يلبث أن يتماثل به فيتخلّى عن نذر التبتُّل ويقترن بشابة روسية جميلة ينجب منها طفلاً ويعترف به. باختصار، شخصيات غنيّة بالألوان وحوارات مثيرة وصداقات غير متوقّعة ومؤامرات تغني هذه الرواية التاريخية التي يوجّه سردَها حتى النهاية مثال التسامح. ولا شك في أن تآلُف كليمان مع الحقبة التاريخية التي تتناولها، وافتتانها بالأسئلة الروحية، ودقة أسلوبها الذي يتراوح بين جدٍّ وهزلٍ، وفقاً للحاجة، صفاتٌ ساعدتها على خطّ هذا البورتريه المؤثّر والدقيق للسلطان أكبر وعلى منح شخصيته تلك الكثافة وذلك التعقيد الضروريين لفهم الجنون الجميل الذي كان يوجّه خطاه والبحث الميتافيزيقي الذي دفعه إلى تكريس حياته من أجل مصالحة المعتقدات البشرية، ومكّنه، للمرة الأولى في تاريخ الهند، من تحقيق تعايُش سلمي بين المسلمين والهندوس. وبنجاحها في ذلك، تمكّنت كليمان أيضاً من إيصال صدى تلك النقاشات التي رعاها أكبر، ولم تفقد شيئاً من راهنيتها، وبالتالي من إظهار عمق - وطواعية - العقائد الدينية التي ترشدنا تارةً وتغشي بصيرتنا تارة أخرى.