يعجبني في معاجم اللغة توليدها للمعاني وتوسيع احتمالات المداخل المعجمية، فأثناء بحثي عن اشتقاقات كلمة مواطن، وجدت من المعاني ما هو قريب ومألوف ومعتاد، ووجدت ما هو جدير بالتأمل والقراءة في ضوء واقع المواطن. فهل كان صناع المعاجم بهذا الذكاء حتى يستشرفوا البعد الإنساني البعيد للوطن والمواطن رغم أنهما من التجارب المدنية المعاصرة؟ يقول ابن سيده في معجمه المخصص ما نصه: (وطن نفسه على الشيء وله، فتوطنت حملها عليه فتحملت وذلت له، وقيل وطن نفسه على الشيء وله، فتوطنت حملها عليه). المفارقة في المعنى الدال على ضرورة الاحتمال، وكأن قدر المواطن التكيف مع المشكلات، دون أن ينجو منها، فالتوطين هو دوام البقاء مع واقع الحال سلبا أو إيجابا. والتوطن وحمل النفس على التكيف وتحمل أعباء الصبر لا يأتي إلا إذا اشتد الحال، وقل المأمول، وحان الرجاء. المواطن كائن معزول، معزول في همومه اليومية، معزول في سياق مواجهة مشكلات مدينته أو قريته التي تتضخم ولا تنكمش. قد يكون من باب اللياقة اعتبار المواطن جزءا من المسؤولية، فالحكومة مهما بلغت قدراتها تحتاج لمواطن فاعل، وهذه الفعالية لا تأتي إلا بتمكينه، وإخراجه من دائرة العزلة والسلبية وعدم المبالاه. يعتبر النقاد شخصيات الرواية من ورق، لكنها تعيش في عالمها بانسجام مستمر، وإدارة دقيقة، لا تجاوز إلا بما يقدره نظام الرواية، فما هو وجه الشبه بين مواطن الروايات ومواطن الواقع؟ عالم الروايات مهما كان خياليا، فهو منطقي تحكمه قوانين التجربة الروائية، فحضور الشخصيات مرسوم بدقة، ومصائر الشخصيات معلومة، وهواها وتفكيرها وما تنطق به يؤدي دروه بأمانة، من هنا فدور الشخصيات ملموس، ونفاذ دورها مؤكد، وإلا اختل معمار الرواية، لا أحد من شخصيات الرواية يمكن أن يقوم بدور غيره، فالكاتب افترض تركيبة معينة وعليه أن يمضي يرقب سير أحدث الرواية ومصائر شخصياته؛ لأن هناك نظاما واضحا يعرفه الجميع. أما في واقع الحياة، حيث المواطن من لحم ودم، فدوره غير معلوم، وأهدافه غير واضحة، يعيش صدى للآخرين أكثر من عيشه صدى لنفسه، ليس لديه ما يحققه سوى أن يمسي بخير، ويصبح بخير، وبين الخيرين لا يشغل ذهنه بمن حوله؛ لأن من حوله يعيش بين خيرين لا ثالث لهما. خير المساء حيث يحل وأنت لا لك ولا عليك، وخير الصباح حيث تصبح لتبحث عما لك وتتقي ما عليك. إن ظفرت بهذا استقبلك خير المساء. وهكذا حتى تفيض الروح لبارئها، دون أن تكون قد أحدثت فرقا في حياتك. علمنا علم الاجتماع أن المواطن كائن اجتماعي، وهذا ــ بدوره ــ يقتضي أن تكون الجماعة هي محور اهتمامات الفرد، فالاتحاد مع الآخرين قوة ونجاح. ولا يعني انفصال الفرد عن الجماعة أنه اختياري، بل هو نوع من العزلة التي فرضها واقعه الملتبس. ولا يعني الاجتماع ما نمارسه في الأعراس، أو ملاعب الكرة أو غيرها، لا يعني هذا أنه نشاط اجتماعي، هذا النوع من الاجتماع يندرج حتى المفهوم الاعتباطي للاجتماع، فالغياب كالحضور لا يحدث فرقا، بل قد يكون الغياب حضورا أبلغ. الاجتماع البناء هو الذي يحدث فرقا، هو الذي يحقق مصلحة تهم الجماعة. هذا النوع من الاجتماع هو ما يعرف في علم الاجتماع بالمجتمع المدني الذي هو قوة للبلاد والعباد. قوة نحو الخير لا عكسه، حيث تظهر تجربته في العمل التطوعي المستقل عن التوجيه الحكومي، ويظهر في شبكة واسعة من العمل الاجتماعي، مثل مؤسسات حقوق الإنسان، ونقابات العمل، والأعمال الخيرية، والعمل التطوعي المنظم. ويسهم الأفراد فيه وفقا لاستعدادهم وخبراتهم. ولعل أبرز مهام المجتمع المدني بعد النفع العام، هو مراقبة أعمال الحكومة وتوجيهها وفقا لحاجة المجتمع. وبهذا المعنى يصبح المجتمع المدني قوة ثانية دافعة للنفع العام. المجتمع المدني يسمح للفرد ببلورة دوره في سياق المجتمع المدني بطريقة تعزز أهيمته، ودوره الفاعل في بناء المجتمع. من الأسئلة التي تحضر في سياق الحديث عن المجتمع المدني علاقته بالمجتمع المحافظ، فالمجتمعات المحافظة تربط بين المكونات الجديدة وملاءمتها للتكوينات القائمة. فالمجتمعات المحافظة، وخصوصا القبلية، لها تكويناتها المدنية أو المستقلة عن العمل الحكومي؛ مثل صناديق دفع الديات والحوادث، وصناديق إعانة الزواج، وغيرها. لكن الفكر المدني الحديث تجاوز المعطى القبلي المحافظ لآفاق أرحب من العمل المجتمعي، فصار من مهام المؤسسات المدنية المراقبة والعناية بحقوق الأفراد أمام المؤسسات الحكومية، في سياق مستقل عن أعمال الحكومات. ولأن هذه الفكرة المدنية لا تشتغل بطاقتها الكاملة والفاعلة إلا في سياق مرن، فإن أي محاولة لتأسيس مجتمع مدني في سياق محافظ سياسيا واجتماعيا تظل قليلة الجدوى.