بعيدا عن قدرة الاسترليني على الصمود أمام الدولار في بعض الأحيان، أو حتى تحسنه الطفيف في مواجهة بعض العملات الدولية كاليورو مثلا، فإن وضع العملة البريطانية بات مثار قلق للعديد من المسؤولين وصناع القرار في بريطانيا وبالطبع للمضاربين في سوق العملات. وإذ تبدو النصيحة السائدة الآن في أسواق العملات هي الابتعاد عن الاسترليني بقدر الإمكان في الوقت الراهن، فإن السؤال الذي يبدو محل الاهتمام الأكبر هو إلى أي مدى يمكن أن يتراجع الاسترليني، وهل يعد التراجع ظاهرة مؤقتة أم أننا أمام وضع سيستمر لفترة طويلة مقبلة؟. وقال لـ "الاقتصادية" ريتشارد إلين المتخصص في التحليل المالي أن الجنيه الاسترليني تعرض خلال الفترة الماضية لأكبر هزة في تاريخه أمام الدولار، وقد باتت التصريحات الصادرة عن السياسيين بشأن الانفصال عن الاتحاد الأوروبي تلعب دورا مهما الآن في التأثير على سعر صرف العملة البريطانية أمام غيرها من العملات، حيث إن تصريحات رئيسية الوزراء تيرزا ماي أخيرا حول أن تفعيل المادة 50 الخاصة بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي سيتم في شهر آذار(مارس) المقبل، كانت كفيلة بأن يتراجع سعر الاسترليني لأدنى مستوى له أمام الدولار في 31 عاما. ويضيف إلين أنه مع هذا يمكن أن نلاحظ ظاهرة إيجابية، وهي أن معدل تراجع الاسترليني في مواجهة الدولار يتقلص، ونسبة الانخفاض تتراجع، وهذا يكشف عن درجة من الاستقرار النسبي بين الاسترليني والدولار حاليا. في المقابل، يعتقد البعض أن أخطر ما تتعرض له العملة البريطانية حاليا لا يعود إلى انخفاض قيمتها في مواجهة العملة الأمريكية، وإنما إلى حساسيتها الشديدة أمام أي تغيرات سياسية أو أي مؤشرات اقتصادية سلبية. وتقول لـ "الاقتصادية"، ويندي هنري من "إف إكس إستراتيجيست" في "ويست بنك"، إن أخطر ما يتعرض له الاسترليني في الوقت الحالي من تغيرات، هو افتقاده الصلابة المعهودة التي كان يتمتع بها في مواجهة الضغوط السياسة والاقتصادية مقارنة بالعملات الأخرى، فالعملة البريطانية لم تكن مفرطة الحساسية للتغيرات الاقتصادية، وهو ما كان يدفع بالعديد من المستثمرين إلى اقتناء الاسترليني بل اعتباره أحيانا من الملاذات الآمنة. وأوضح هنري أن الوضع الآن تغير، فبمجرد ظهور أي خبر اقتصادي سلبي حول علاقة الاقتصاد البريطاني بأوروبا نجد تراجعا واضحا في قيمة العملة البريطانية، وبالفعل تراجعت قيمة الاسترليني بعد تصاعد المخاوف بشأن مغادرة مجموعة من المصارف الكبرى والصغرى الأسواق البريطانية.وأشار هنري إلى أنه إذا ما أخفقت مفاوضات الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، في أن تسفر عن وضع مميز للندن يكون فيه لدى المصارف العاملة في بريطانيا أي منفذ على السوق الأوروبية الموحدة، ولا شك أنه إذا تحققت تلك المخاوف بمغادرة المصارف الأوروبية فإن الاقتصاد البريطاني ومعه الاسترليني سيتعرضان لهزة ضخمة، وذلك في ضوء المساهمة المالية الكبرى لقطاع الخدمات المالية في الاقتصاد البريطاني، حيث يسهم سنويا بأكثر من 73 مليار دولار ضرائب. ويعتبر روبرت هيلتون الباحث في بنك إنجلترا أن الاسترليني دخل فيما يعتبره حلقة المفرغة ولو لبعض الوقت، ويوضح لـ "الاقتصادية"، أن مشكلة الاسترليني الحقيقية هي فقدان ثقة المستثمرين والمضاربين بأنه سيعاود الارتفاع في القريب العاجل، ومن ثم يؤدي ذلك لانخفاض الطلب عليه، ويؤدي ذلك بدوره إلى تراجع سعر صرف الاسترليني، ومن ثم مزيد من انخفاض الطلب، وهكذا. ويضيف هيلتون أنه نتيجة لتلك الحلقة المفرغة فإن أي زيادة تحدث في سعر صرف العملة البريطانية خلال أسبوع تتآكل في الأسبوع التالي، وخلال الأسبوع الماضي ارتفعت العملة البريطانية بشكل طفيف بنحو 0.4 في المائة، لأن الشعور العام في الأسواق سلبي تجاه العملة البريطانية، حيث تراجعت هذا الأسبوع بنحو 0.3 في المائة. ومع هذا يعتقد بعض الخبراء أن جزء من التراجع الراهن في سعر صرف الاسترليني، لا يعود فقط إلى قضية الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، ولكن أيضا إلى الغموض الذي يحيط بمصير الرجل المسؤول عن سياسة بريطانيا المالية وعن قيمة الاسترليني. وقال لـ "الاقتصادية"، الدكتور بيت برانت أستاذ الاقتصاد المالي في جامعة لندن، أنه يمكن إرجاع الوضع المتردي للاسترليني في الوقت الحالي، إلى غموض الصورة بالنسبة للمستثمرين بشأن مستقبل السياسية المالية البريطانية في المرحلة المقبلة، فمحافظ بنك إنجلترا مارك كارني الذي تم التعامل معه لسنوات باعتباره مصدر الاستقرار المالي، يتم النظر إليه الآن باعتباره أحد عوامل عدم الاستقرار المالي بسبب تجاوزه لدوره كمحافظ للبنك خلال فترة الجدل السياسي بشأن البقاء أو الخروج من الاتحاد الأوروبي، ولذلك فإن نحو 18 في المائة من التراجع الراهن في قيمة الاسترليني، يعود إلى غموض الصورة بشأن مستقبل مارك كارني الذي أعلن أنه سيقرر نهاية العام مستقبله مع بنك إنجلترا. ويزداد التشاؤم في بريطانيا بشأن مستقبل عملتها في قادم الأيام، خاصة بعد أن كشف استطلاع للرأي بأن المواطنين البريطانيين مستعدين للتخلي عن المكاسب الاقتصادية التي يمكن أن يحققونها، من مزايا السوق الأوروبية الموحدة إذا كان المقابل هو أن يزيد عدد اللاجئين لديهم. ولا شك أن هذا الموقف من قبل المواطن البريطاني يزيد من إرباك المشهد الاقتصادي، ويؤدي إلى إدراك المستثمرين إلى أن مفاوضات العلاقة المستقبلية بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي ستكون شائكة للغاية، ما سيدفعهم إلى الابتعاد عن الاسترليني في الوقت الراهن على الأقل. من جهة أخرى، سجل الجنيه الاسترليني أعلى مستوياته في يومين أمس بعد أن قال وزير بالحكومة إن مجلسي العموم واللوردات سيتعين أن يفحصا أي معاهدة جديدة تفرزها مفاوضات بريطانيا بشأن علاقتها مع الاتحاد الأوروبي.