الدفاع السلبي لا يزيد المهاجم إلا قوة ولا يزيد المدافع إلا ضعفاً.. ولذا فقد جاءت جهودنا عكسية في الدفاع عن دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وإنكار مصطلح «الوهابية».. (وإن كنت لا أعلم إلى الآن ما الحكمة من إنكار هذا المصطلح؟.. فأنا أرى أن في إنكاره معنى التهمة له، بينما في إثباته والفخر به معنى التبرؤ من غيره ممن انتسبوا للسلفية، كالتكفيرية والجهادية وغيرها). وعلى كل حال، فقد أصبحت «الوهابية» مُصطلحاً عالمياً مشهوراً، حتى على المستوى الشارع العام.. فلا تكاد تجد أحداً في شوارع أمريكا وأوروبا إلا وعنده معرفة بالوهابية، إلا أنها معرفة الجاهل المركب.. فكل من التقيت أو تحدثت أو تجادلت معه، وجدت أنه يؤمن بأنها مذهب إسلامي متطرف متشدد يدعو للتكفير واستباحة الدماء. وهناك البعض من الذين يريدون إظهار شيء من الاعتدال والتفهم، تجده يبرئ الإسلام من الدعوة ويشبه حالها مع الإسلام كحال اليهودية والنصرانية مع المذاهب اليهودية والنصرانية المتطرفة الموجودة حاليا.. بل إن الأمر قد تعدى هذا، فإنك تجد اليوم كثيراً من الشباب السعودي، قد بدأ يتشرب ويقتنع بما يدور عالميا عن الوهابية.. وما هذا إلا لأن الشباب ينظر للتطبيقات العملية لا إلى التنظيرات التبجيلية والإنكارية. والتطبيقات العملية هي الفتاوى الفقهية المتعلقة بحياة الناس ومعاملاتهم. ومنذ سنوات وما زلت، وأنا أقول وأعتقد أن أي تنظير دفاعي لا ينفع، مالم يُقترن بتطبيقات ملموسة؛ فكل ندواتنا وكتاباتنا ودفاعاتنا عن الدعوة تاريخية، تدور بصورة أو بأخرى حول الإنكار أو التبجيل.. وطريقة الإنكار والتبجيل، طريقة قديمة تضر ولا تنفع. فالعالم كله يعرف مثلاً بأن النصرانية كانت ديانة دموية ظالمة في تطبيقاتها العملية. ومهما افترى أو قيل عن الوهابية فلن يأتي مثقال ذرة مما يُثبت النصارى ما حصل عندهم في دينهم. فالماضي قد مضى وله أسبابه وثقافاته ومعطياته ومفاهيمه، فلا يقاس على الحاضر ولا يُترك ما في الماضي من خير بسبب ما اقترن به من حوادث.. ولكن العتبى والملامة تقع، عندما يُدرك الماضي الحاضر، إذا كان الحاضر امتداد للماضي بجمود عليه ونحو ذلك. وقد كان بالإمكان قديماً فرض المتناقضات العقلية على المجتمعات المنغلقة، كما هي الصبغة العامة التي تصبغ محاولاتنا الدفاعية السلبية. وأما اليوم، فقد تعولم العالم فما عادت هذه الطرق تزيد الطين إلا بلة. فمن التناقض مثلاً القول بأن دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب لم تكن إلا دعوة عقائدية فقط.. فهذا نظرياً مُناقض لجوهر ما تدعو إليه.. لأن هذا القول يحمل معنى الإرجاء الذي تحذر منه الدعوة. وهو مناقض أيضاً للتطبيق العملي، فقد تدخل فقهاء الدعوة في كل صغيرة وكبيرة من شئون الناس بحق ومن غير حق. وأنا أؤمن أن هدف الدعوة الوهابية الجوهري المتمثل في تخلية الوسطاء بين العبد وربه، كان شاملاً لأفعال القلوب والجوارح، أيّ للعقائد والعبادات والمعاملات، ولكنها لم تتمكن من إكمال هدفها.. فقد اتبعت الدعوة منهج النبوة في التدرج بالدعوة المكية ثم المدنية، فقصر بها زمن التمكين -بسقوط الدولة السعودية الأولى- عن إتمام المرحلة المدنية المتعلقة بالمعاملات.. وكما هي سنّة الله في الحركات الاجتماعية والدينية، فقد دخلت الدعوة بعد ذلك في دلاهيز التقليد المحض و التعصب لطريقة المؤسسين، فمُنع أي فكر مخالف وتُبني كتمان العلم الشرعي عن العامة إذا ما خالف طريقتهم، حتى أصبح هذا ديناً لها تدين الله به، وتحتج له. واليوم وبهذه الثورة التواصلية، لم يعد هناك من ساتر يستر من العواصف الفكرية والمذهبية والسياسية، إلا بالمنطق الصحيح وتجنب المتناقضات وإثبات الأطروحات بالتطبيق العملي الملموس. فيا سماحة المفتي، لقد أورثك الله ديناً ثقيلاً، قد تراكم عبر قرون؛ ومع هذا الإرث الثقيل، جاءت معه الحلول.. فاليوم تنظر الناس إلى فقه تطبيقي معاصر. وليس في الساحة اليوم، إلا مُقلد جامد، أو صاحب هوى يدعي المقاصد والمصالح. فدعوى المجمعات الفقهية وأمثالها لا تختلف عن ما تقوم عليه تشريعات البرلمانات الديمقراطية، وهي المقاصد والمصالح. اللهم أن البرلمانات أهل خبرة وعلم بهذه الأمور الدنيوية فأجادوا معرفة المصالح والمقاصد. بينما أضاعتها المجمعات الفقهية، فلا شرع اهتدت به للمصلحة الحقيقية (لخروجها عن الشرع بدعوى المقاصد)، ولا علم دنيوي أدركت به المصلحة الحقيقية. ومن أهم أبواب الفقه التطبيقي الذي تنظر إليه الناس هو ما يتعلق باقتصادها؛ وأمامك اليوم مسألتين: زكاة الأراضي وربوية النقد الحديث -الأولى محلية والثانية عالمية-. هاتان المسألتان إن صححتا، فبإمكانهما أن تدفعا الدعوة الوهابية إلى قمة المرجعية الإسلامية، وتخلق فيها ديناميكية هائلة للتطور وتمكنها من البدء في إكمال مرحلتها الثانية التطبيقية التي تعطلت منذ قرون. وحجة المسألتين واضحة بسيطة بتنزيل واضح للنصوص الشرعية، فلا تحتمل الخلاف، إلا من المُخالف المماري والجاحد للحق الظاهر.. وفي تصحيح هاتان المسألتان تصحيح لتبعياتهما الكثيرة التي أضرت بالدين والدنيا، وكسر لجدار التقليد العازل للفهم، لتنطلق الدعوة بعد ذلك في تأصيل الفقه كله على الشرع الصالح لكل زمان ومكان بحقيقة تطبيقية ماثلة لا دعوى إفلاطونية، لا يراها الناس قابلة للتحقيق بسبب التقليد. وتأصيل هذه المسائل وغيرها من البساطة إلى حد يعجب بعض الناس منه. وما العجب إلا عجبهم، فمما العجب؟.. فالدعوة الوهابية دعوة بسيطة لا سفسطة فيها ولا تعقيد، فهي دعوة محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام النبي الأمي، جوهرها تخلية الوسطاء بين العبد وربه. وتقليد آراء الفقهاء رغم بعدها عن الدليل الشرعي هو أمر مخالف لجوهر دعوة لشيخ، والرجوع إلى الكتاب والسنة بتخلية الفهم عن اتباع الوسطاء هو جوهر دعوة الشيخ الذي هو جوهر دعوة الإسلام. فأنت تقف اليوم يا سماحة المفتي أمام خيار إستراتيجي سيتحدد به مصير الدعوة وتاريخها، وقد قال تعالى: وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا .. فلا تضيع إمامة الدين من هذه البلاد، وأما الدين وتصحيح هذه المسائل وغيرها فلا خوف عليه، فالله كفيل به وهو القائل سبحانه : فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ .