لست بصدد الدخول في حاضر الجنادرية؛ ولا ما يرافقه من مدح وقدح. سأتخيل نفسي في المستقبل البعيد؛ ابن جيل يبعد كثيراً.. كثيراً عن واقع عاشه أجداده وربما أجدادهم؛ وسأنظر من نافذة المستقبل تلك؛ على هذا المهرجان، إذا قدر له الاستمرار وهو المرجو والمؤمل. وقبل أن أذهب إلى هناك؛ سأبدي من منبر الحاضر أسفي؛ على الكثير من لمحات ماض جميل غيبها الإهمال؛ ولم تسعفها يد العناية إلا متأخراً بعد أن تلاشى الكثير منها أو كاد. على أية حال ل "نعُد" إلى المستقبل: ماذا سأرى حينها من نافذته؟ سأرى نفسي في مرآة مختلفة؛ مرآة تحكي قصة لا أعرفها وربما لم يذكرها قط لي أبي؛ وقد يكون جدي عايشها يوماً أو جاء على ذكرها عرضاً بلا اهتمام. حينها سيكون كل ما حولي يتنكر لتلك القصة؛ ملامح الزمان والمكان ستكون تغيرت كثيراً وطمست معالم حكاية إرث ثقافة وبناء؛ ولم يبق لي شيء سوى حفنة من حضارة حاضر لا أدري من أين ابتدأت ولا أين ستنتهي! لكنني من تلك النافذة؛ سأرى البداية وأتخيل النهاية؛ وسأرى امتدادي العميق في تلك القصة. ستطل جذوري لتذكرني بأنني لست نقطة عابرة في الزمن، وأن حاضري ليس سطراً يمكن محوه؛ إنني تاريخ طويل؛ ومزيج من ثقافات متنوعة؛ ووليد وحدة فريدة جمعت تلك الثقافات المتباينة والمتنافرة؛ ووحدتها في مكان وزمان؛ فتجاورت وتعايشت وتعانقت من دون أن تطغى على بعضها؛ وتنافست من دون أن تحارب إحداها الأخرى، في سلام وتسليم تام ونادر. ومن تلك النافذة؛ سأرى لوني الحقيقي في ملامح أجدادي؛ وسأعرف قصة كفاحي في عروق كفوفهم النافرة والمرهقة؛ سألمس شباك الصيادين، وأطرق خشب المراكب التي طالما غرفت من خير البحر وغدره، سأشتم رائحة النخيل وبيوت الطين، وفؤوس الفلاحين، ومواقد الحطب وحجارة الحصون؛ سأرى بيوت الشعر وأسمع صهيل الخيول؛ وسأبتسم، ويغمرني الامتنان، وأشكر "الجنادرية" التي حفظتني؛ كذاكرة وإرث وثقافة وتاريخ؛ وسأعرف أين أنا؛ وإذ كانت تلك الوحدة الفريدة هي ماضيّ ؛ فسأعرف بلا شك أين سأتجه بمستقبلي.