حلقة برنامج الثامنة على قناة (إم بي سي) التي تم فيها استضافة وزراء المالية والخدمة المدنية ونائب وزير الاقتصاد والتخطيط شهدت سجالاً واسعًا على مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام. وبداية، سنقف عند تصريح معالي نائب وزير الاقتصاد والتخطيط، الذي قال إنه «لو لم تُتخذ إجراءات عديدة لضبط الإنفاق - كما يمكن اختزاله من مجمل ما قاله - لكان الاقتصاد الوطني يسير على خط الإفلاس بعد ثلاث أو أربع سنوات». ولكن لا بد من تعريف إفلاس الدول الذي تجتمع التعريفات على أنه (عدم قدرة الدولة على سداد ديونها، وعدم قدرتها على الاقتراض من الخارج أو تغطية قيمة وارداتها.. إلخ). ورغم أن مفهوم إفلاس الدول مجازي، ولا ينطبق عليه مفهوم إفلاس الشركات أو الأفراد، إلا أن الدول لديها القدرة على مواجهة إشكالياتها الاقتصادية بطرق واسعة. لكن هل ينطبق مفهوم إفلاس الدول على الاقتصاد الوطني؟ إن كل المعطيات والحقائق تُضعف مثل هذا الاحتمال؛ إذ تمتلك المملكة احتياطيًّا نقديًّا يكفيها لسد احتياجاتها من الواردات لمدة 28 شهرًا، بينما المعدل العالمي عند 4 أشهر، أي تتفوق المملكة بسبعة أضعاف لسد احتياجاتها من القطع الأجنبية لتغطية الواردات. وإذا كان ما قصده معالي النائب استمرار وتيرة الإنفاق على ما هي عليه دون أن يتم ضبطها، ودون أن تتوسع إيرادات الخزانة العامة وتُخفَّف الأعباء على المصاريف العامة، ويتم تغطية العجز من الاحتياطيات، فهو لا يفسر أنه سيؤدي للإفلاس، بل إلى تآكل الاحتياطيات؛ لأن الإفلاس مرحلة طويلة جدًّا ومعقدة، بخلاف أن ديون المملكة السيادية محدودة جدًّا، ومن الأقل عالميًّا، بل إن الطرح الأخير للسندات الدولية للمملكة قبل أيام تمت تغطيته مرات عدة، وأخذ تصنيفًا ائتمانيًّا عاليًا من وكالة فيتش كدليل على النظرة المستقبلية الإيجابية لاقتصاد المملكة، التي تعتمد على ما تم بناؤه من احتياطيات بالسنوات الماضية، وتقليص للدين العام، وكذلك بجزء آخر إطلاق رؤية المملكة الاقتصادية المستقبلية، والبدء ببرنامج التحول الوطني؛ ولذلك فإن الخلاصة تقتضي القول إن التصريح لم يكن موفقًا في ظل تمتع المملكة بأسس اقتصادية متينة، وكونها تمتلك ثروات هائلة من النفط والغاز والمعادن، وكلها أصول تدعم استقرارنا الاقتصادي؛ فبظل الأسعار الحالية للنفط فإن الإيرادات منه تصل إلى ما بين 400 و450 مليار ريال، وهي أرقام تُعدُّ كبيرة جدًّا مع إيرادات غير نفطية، سترتفع بعد تغيير أسعار الطاقة، وتقليص فواتير الدعم، وتقليص مصاريف عامة عديدة، وهي ما نُظر لها بأنها إصلاحات لتدارك زيادة العجز بالموازنات الحالية والقادمة، لكنها إجراءات في أغلبها تقليدية، تتبعها الدول عندما تمر اقتصادياتها بحالة من الركود أو تباطؤ النمو، وتتأثر بأوضاع اقتصادية عالمية أو لأسباب عديدة، لكن لا يمكن أن توصف بأنها تدارك لحالة إفلاس محتملة، وإلا لما وجدت النظريات الاقتصادية والحلول التي تتبعها الدول للعودة لمراحل نمو وانتعاش لتطوير اقتصادياتها. فمثل هذا التصريح وإن وصفه البعض بالشفافية لكنه حقيقة غير موفَّق؛ لأنه سيثير حفيظة المستثمر المحلي والأجنبي، ويزيد من القلق لدى الأفراد؛ فيُحجموا عن الاستهلاك والإنفاق عمومًا بالاقتصاد أو الاستثمار، ويميلوا للتشدُّد بالادخار وبعملات عديدة أو معادن كالذهب خوفًا من أي تغيير بسعر صرف الريال، الذي تم نفيه كثيرًا. فإذا كان مسؤول بهذا الحجم يصرح باحتمال كان سيتحقق قريبًا فإن الحذر سيبقى تلقائيًّا لفترة مقاربة لما ذكره من سنوات بخلاف تلقي وكالات الأنباء والمواقع الإعلامية العالمية له، ونقله للعالم؛ ما يعد سمعة سلبية لاقتصادنا، لا تمت للواقع بصلة؛ فالأرقام والحلول لتجاوز الأزمات الاقتصادية لا تستند إلى عاطفة عند ذكرها كحجة أو برهان لنفي أو إثبات حقيقة ما، وهي ما تتضح بمجمل أحوال الاقتصاد الوطني المتينة. أما ما يتعلق بالإنفاق على المشاريع خلال السنوات الماضية، كإنشاء جامعات أو طرق أو مرافق صحية وغيرها، الذي ألمح له نائب وزير الاقتصاد، وأيده فيه وزير الخدمة المدنية بأنه كان يكتنفه الهدر، فلا أعتقد أن تطبيق التنمية المستدامة وتوزيعها على المناطق كافة كهدف أعلنته كل الخطط التنموية السابقة يتسق مع ما ذكروه؛ فانتشار التعليم بمستوياته كافة بكل المناطق مطلب وهدف؛ إذ كنا نعاني شحًّا بمقاعد الجامعات والقبول فيها، وكذلك الهجرة للمدن الكبيرة التي تتوافر فيها كل الجامعات وتخصصاتها؛ ولذلك فإن وجود مثل هذه المرافق بالمناطق كافة أنعشها اقتصاديًّا، وقلل من الهجرة للمدن الكبرى، ووفر الخدمات التي هي حق لهم. أما هل كان هناك هدر أو مبالغة بتكاليفها فهذه مسؤولية جهات عديدة، من أبرزها وزارة الاقتصاد والتخطيط، التي هي من يضع الخطط التنموية، ويقدّر حجم تكاليفها وطرق تمويلها.. فأين كانت الوزارة خلال السنوات الماضية حتى تقف بوجه أي هدر أو مبالغات بتكاليف المشاريع ناجمة عن ضعف بالأجهزة التي يمكن لها تقديم القيم المناسبة لتنفيذها؟ إلا أنه لا يمكن الخلاف على مبدأ أن كل تلك المشاريع تحمل أهمية وضرورة للتنمية بالمناطق كافة، وسيلمس أثرها أكثر بالمستقبل عندما تتوسع أعمالها وتشغيلها. وفي سياق ما ذُكر من معلومات قال معالي وزير الخدمة المدنية إن إنتاجية الموظف السعودي بالقطاع العام تصل إلى ساعة واحدة يوميًّا مستندًا بذلك إلى دراسة قديمة جدًا قُدمت سابقًا، وموجودة لدى وزارة الاقتصاد والتخطيط. وبعيدًا عما ذُكر بالدراسة إلا أن ما قيل حول حجم الإنتاجية يُنظر له كإحباط لعموم العاملين بالأجهزة الحكومية؛ فنصف الموظفين المدنيين هم بقطاع التعليم، ويعلم الجميع أنهم منتجون، ويكفي القيام بجولة لمواقع عملهم لتعرف حجم إنتاجيتهم الكبير. أما بقية القطاعات فجميعنا يعلم حجم الضغط على القطاع الصحي، وإنتاجية العاملين فيه كبيرة جدًّا، سواء المواطنون أو الوافدون. ولا يختلف الأمر عن الجامعات وغيرها؛ فالدراسة لم تكن منصفة؛ وتحتاج إلى إعادة نظر وعمل منهجي عملي وعلمي، يفصل إنتاجية كل قطاع بدقة، بل كل تخصص قبل إطلاق أحكام عامة على الإنتاجية، مع تأكيد أن تطوير الإنتاجية عمل مستمر، لا يتوقف، ويتطلب دائمًا مزيدًا من التأهيل والتدريب وتطوير التقنيات والأنظمة والهياكل الإدارية. نقاط عديدة ذُكرت على لسان ضيوف البرنامج، جميعها تستحق الشرح والتعليق، لكن ما غاب عمليًّا عن اللقاء هو الحوار حول السياسات المالية والاقتصادية الحالية والقادمة تحديدًا؛ لأنها ترسم ملامح كبرى للاقتصاد المحلي، وهي ما يحتاج الفرد والمستثمر والمنشأة لمعرفتها؛ حتى يتمكن من اتخاذ قراراته، سواء بالإنفاق أو الادخار أو الاستثمار، وكذلك المدد الزمنية لتنفيذ كل خطة أو برنامج استراتيجي رئيسي، ومدى ترابط مبادرات الوزارات كافة ببرنامج التحول الوطني مع بعضها، وكيف تدعم كل وزارة مبادرات وزارة أخرى ذات ارتباط وثيق بعلاقات العمل بينهما، فكيف يمكن لوزارة الإسكان - على سبيل المثال - أن تنجح ببرنامج الادخار السكني، وفي الوقت نفسه هناك إجراءات تضغط على تكلفة المعيشة، وتقلل من دور الادخار بحلول الإسكان، أو حتى بتحقيق أهداف الرؤية برفع الادخار للأسر إلى عشرة في المئة من ستة حاليًا؟!