حري أن نتساءل عما جعل النخب السياسية الغربية ووسائل إعلامها أكثر رعاية للجهد الإيراني في المنطقة وأكثر تفهما لدوافعه، وعما جعل من الجهد العربي وربما التركي الخجول المضاد عسيرا على التسويق وعلى نيل التأييد والاحتضان. العربمحمد قواص [نُشرفي2016/10/21، العدد: 10431، ص(9)] منذ غزو العراق عام 2003 راج الحديث عن اختلال في التوازنات الداخلية انسحبت تداعياته إلى ما وراء الحدود ليعمم مفهوما جديدا اسمه “المظلومية السنّية”. تولّت الولايات المتحدة رعاية توزيع جديد للنفوذ في العراق منذ الإطلالات الأولى للعملية السياسية. تأسست الخرائط الأميركية في العراق على سلسلة مؤتمرات للمعارضة سبقت الغزو بسنوات، شكّلت الأحزاب والتيارات الشيعية مادتها الأولية متناسلة من “مظلومية شيعية” تغرفُ زادها من التاريخ القديم في المواجهة ضد يزيد، ومن التاريخ الحديث في المواجهة ضد صدام حسين. ترعرع منحى تهميش السنّة مع رواج فكرة في الولايات المتحدة عن صراع حتمي بين الغرب والإسلام في ما كتبه صاموئيل هانتغنتون في كتابه الشهير “صراع الحضارات”، ومع رواج قناعة بعد اعتداءات 11 سبتمبر 2001 بأن هذا الإسلام الخصم هو الإسلام السنّي الذي تجرأ 19 إرهابيا ينتمون إليه على الضرب في عمق الولايات المتحدة، وفي عقر دار أكبر دولة في العالم. تتحمل واشنطن وزر الإثم العراقي ليس لأنها أزالت نظاما دكتاتوريا في العراق، فذلك قابل للنقاش، بل بسبب تدميرها للبنية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للبلاد وإقامة نظام محاصصة يؤسس لصراعات دائمة لا تنتهي، تستقي منابعها من بطون التاريخ وجماد رموزه. وتتحمل واشنطن وزر العلّة العراقية ليس بسبب إزالة نظام حكم، اتهمّه خصومه بالطغيان والدكتاتورية وليس بالطائفية، بل بسبب إقامتها نظاما طائفيا مذهبيا متعدد القوميات، تعترف واشنطن بأنه خطيئة تدعي أنها لا تريد تكرارها في سوريا هذه الأيام. وفيما يعترف العراقيون بكافة مشاربهم بالدور الذي لعبه السنّة في إدارة البلاد منذ الاستقلال، وليس منذ نظام البعث، فإن حلّ الجيش العراقي وسنّ قوانين اجتثاث البعث وتفكيك البنى التحتية للدولة العراقية عمل على تدمير التراكم التاريخي للإدارة العراقية، وبالتالي عمل على تهميش رعاة هذا التراكم منذ بدايات تأسيس الدولة. وسواء كانت للتهميش أسبابه وموجباته، فإن من منطق الأمر أن ينتفض المهمّش على واقع تهميشه. يطلق الحدث العراقي مفهوم “المظلومية السنّية” الذي لم يكن معروفا قبل ذلك، على ما يعبّر عن ركاكة في تظهير طموحات الأغلبية الساحقة من المسلمين في العالم. فليس منطقياً أن يشكو السواد الأعظم من المسلمين مظلومية تسببها الأقلية. لكن توافق أجندة إيران مع أجندات العواصم الكبرى في العالم جعل للفعل العراقي أصداء مقلقة تشرّع الباب أمام رواج مفهوم المظلومية عند السنّة، حتى بالمعنى الذي تتخصّب به الرواية الحسينية منذ واقعة كربلاء وحتى الآن. مثّل اغتيال رفيق الحريري في لبنان حلقة جديدة تضاف إلى سياق يريد أن يضفي على عملية قتل الرجل بعدا يصبّ داخل مفهوم “المظلومية”. بدا أن الوقوف المحتمل لدمشق وطهران، من خلال حزب الله (حسب الاتهام الرسمي للمحكمة الدولية بهذا الشأن)، يحمل ماء إلى طاحونة من يراقب خطط إيران في اختراق كافة ميادين المنطقة وتصفية أي اعتراض يحول دون ذلك. تأثر سنّة لبنان بتغييب زعيمهم، وتبنى بعضهم، بعد سلسلة مناسبات من الصدام بين “الشيعية السياسية” وتيار المستقبل، مفهوم “المظلومية”. خرج من عباءة الأمر شيوخ ودعاة ورجال سياسة يقاربون الدنيا وفق قواعد الدفاع عن “أهل السنّة”، ما جعلهم في حال تصادم مع تيار الاعتدال ومنطق الدولة (المتواطئة، وفق قناعاتهم، في إذلال السنّة). لا يتيح نظام الولي الفقيه في إيران تخفيفا من وهج المظلومية عند السنّة. تطلق طهران رسميا ودستوريا خطابا مذهبيا يتوافق مع شرعية الحكم منذ الإطاحة بالشاه وإقامة الجمهورية الإسلامية. تدعم طهران الأحزاب الدينية الشيعية العراقية وتتحكم من خلالها بقرار بغداد، حسب خطاب المظلومية عند السنّة، وترفد إيران حراك الشيعة في الخليج، بما يواكب ذلك في السعودية والبحرين، وما يفسّر زرع خلايا نشطة في الكويت، وما يبرر تمدد “العون” الإيراني صوب الحوثيين في اليمن. ولا شك أن خيارات الولي الفقيه في سوريا ولبنان تصبّ زيتا على نار المروجين للمظلومية السنّية. لا تواري طهران دعمها للهلال الشيعي الذي سبق أن تحدث عنه عاهل الأردن الملك عبدالله الثاني، فيما ورشتها العراقية السورية ترسم ممرا يصل إيران بالبحر المتوسط، وفق تحقيق لافت نشرته الـ”أوبزرفر” البريطانية، وورشتها اللبنانية ترسم حدودا أخرى تطل من خلالها على ذلك البحر غربا وعلى إسرائيل جنوبا. على ذلك تسري مظلومية السنّة في تفسير صراع المعارضة ضد نظام الحكم في دمشق، وتتمدد مفاعيلها الجغرافية نحو خطوط التماس مع النفوذ الإيراني من المحيط إلى الخليج، فيما مفاعيلها الأيديولوجية تغذي خطاب الإسلام السياسي من إخوانييه إلى داعشييه. لكن “المظلومية السنّية” لم تعد مفهوما افتراضيا جدليا تتداوله تيارات وجماعات، بل باتت قاعدة تتأسس عليها مواقف دول في المنطقة في تبرير أدائها في هذا الملف وتلك الساحة وذلك الميدان. يطل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على الشأن العراقي، لا سيما على معركة الموصل هذه الأيام، من منبر “المظلومية” التي يتعرض لها السنّة في العراق، ودرءا لخطر تغيير ديمغرافي يهدد الموصل، على ما يقول بن علي يلدريم رئيس الوزراء. لا يبتعد الموقف الخليجي في رفض مشاركة ميليشيات الحشد الشعبي في معركة الموصل عن مفهوم “المظلومية”، فيما تحسم تصريحات وزير الخارجية السعودي عادل الجبير أي ضبابية في دعم سنّة العراق ضد من يقترف “المجازر والجرائم” ضدهم. وبغضّ النظر عما إذا كانت المظلومية السنية هي واقع حال أم أنها أداة من أدوات الصراع الداخلي أو ذلك بين العواصم، فالواضح أن الأمر لا يندرج ضمن أجندة القوى الكبرى في العالم، لا بل يظهر الأمر وكأنه تواطؤ في الإمعان في نفخ ذلك الورم وتخصيب قيحه. يرى المروجون لـ“المظلومية” في الموقف الغربي في سوريا (بعد العراق) ضربا للسنّة لصالح “حكم العلويين” في دمشق، ويرون في موقف روسيا عداء للسنّة يكمل ذلك الذي مورس في غروزني قبل ذلك. وفيما يلاحظ دعاة “المظلومية” التغطية الجوية الروسية لقوات دمشق وقوات إيران وميليشياتها في سوريا، يرون تغطية جوية يقدمها التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة لقوات بغداد وقوات إيران وميليشياتها في العراق، حتى لو كان الأمر يجري لمحاربة تنظيم داعش، الذي يعبّر في خطابه وأدبياته وادعاءاته عن مظلومية السنّة. من المنطقي التساؤل عما إذا كان رفع المظلوميات، سنّية كانت أم شيعية، يعني دفن أي أمل بقيام دول حديثة ترتفع على أساس المواطنة وليس على معايير الطوائف. وربما حريّ بالمدافعين عن مفهوم “مظلومية السنّة”، تيارات وعواصم، أن يسألوا عن الوجاهة في جعل تلك المظلومية بلا صدى في العالم، لا بل جعل تعبيراتها خطرا على الغرب كما على روسيا والصين. كيف يعقل أن نخب العواصم في العالم ترى في الدفاع عن تلك المظلومية أورام إرهاب تعيد تعويم نظام الأسد في دمشق وتحيل إبادة مدينة حلب تفصيلا؟ ثم كيف سها عن بال المطبلين لتلك المظلومية ألا يروا في تلك الإستراتيجية الطائفية تدعيما لخيارات إيران، وليس تقويضا لها ومنحا لطهران مشروعية دفاعها عن “مظلومية الشيعة في العالم”؟ ثم ما الحكمة من خسارة دعم روسيا دون الفوز بدعم الدول الغربية والعكس صحيح؟ وما الخطيئة التي ارتكبت لجعل التناقض الروسي الغربي المتّقد في أوكرانيا مثلا يغيب حين يجمعون على ضرب الحراكات العسكرية المنسوبة إلى أعراض مظلومية السنّة؟ قد نفهم أن يلجأ تنظيما القاعدة وداعش إلى خطاب لا يعترف بالنظام الدولي ولا يعترف بالسياسة والدبلوماسية وعلم المصالح. وقد نفهم أن “الجهادية” تبشّر بقيام “دولة الإيمان” المتخيّلة بديلا عن “دولة الكفر” المعمول بها في عالم اليوم، لكن ما لا يفهم ألا تتنبه العواصم إلى إدراج أمر تلك “المظلومية” وفق منظومة مصالح يتم تسويقها داخل البنى التحتية الدبلوماسية الدولية، كما داخل منظومات الإعلام والرأي العام. حريّ أن نتساءل عما جعل النخب السياسية الغربية ووسائل إعلامها أكثر رعاية للجهد الإيراني في المنطقة وأكثر تفهما لدوافعه، وعما جعل من الجهد العربي (وربما التركي الخجول) المضاد عسيرا على التسويق وعلى نيل التأييد والاحتضان. في ذلك عجز عن استيعاب قواعد العالم واستشعار ميوله، وفي ذلك غياب لعمل دؤوب تفصيلي يتجاوز رتابة ما تقوم به السفارات، وفي ذلك أن العالم لا يحب المظلومين ولا يحب بناء علاقات الدول على أسس تتقاذف مفاهيم العدل والمظلومية. صحافي وكاتب سياسي لبناني محمد قواص :: مقالات أخرى لـ محمد قواص عن مظلومية السنة…, 2016/10/21 كلينتون - ترامب: الرسم بالكلمات, 2016/10/14 عزف الحريري وإيقاعات بكركي, 2016/10/07 هل يحتاج اتفاق الهدنة إلى سقوط حلب؟ , 2016/09/30 الحريري وعون.. حكاية الشيخ والأمير, 2016/09/27 أرشيف الكاتب