المهدي أخريف سفر رمزي منذ عودته مِن مدينة «دوربان» في جنوب إفريقيا العام 1905 لم يُغادر فرناندو بيسوا مدينته الأولى والأخيرة لشبونة أبداً لمدة ثلاثين سنة (عَدَا سفراً أو سفرين قصيرين إلى مدينة سينترا الصغيرة القريبة جداً من العاصمة البرتغالية) حتى وفاته لعام 1935. لشبونة كانت مدينته، كانت العالم كُلَّه بالنسبة إليه. وكان على معرفة بأدق تفاصيل تاريخها، أحيائها، معالمها كما تظهر ذلك كتاباته المختلفة عنْها، بما يدل على تعلق صوفي وُجُودي بها، لكن عَلَى نحو لم يُخْفِ أبداً ما هو أهم في كل كتاباته: لا طمأنينته المتفاقمة وساوسه الميتافيزيقية مع بَرَمٍ لا هوادة فيه بحياته الخاصة والحياة العامة المحيطة به. في يومياته المنشورة للمرة الأولى عام 2007 في لشبونة يشير في موضعين على الأقل إلى تخطيطه للسفر إلى إنجلترا في فترة مبكرة بعد عودته من «دوربان» بدون أن يحدِّد الهدف من ذلك السفر، ولا السبب الذي جعله يصمت نهائياً عنه، ليعود بعد سنوات إلى الإعراب بشكل متكرّر عن كراهيته للسفر بكل أنواعه، واستعاضته عنه بالسفر داخل نفسه وخيالاته، وفي قصائد محدّدة ومعروفة من «قصائد ألبارو دي كامبوس» مثل «الحقائب» «على طريق سينترا» «الرحيل I وII» و«عن الرحيل» وبالموازاة مع ذلك، نجده يرفض عرضين للعمل: الأول يقترح عليه الإشراف على دار نشر في لندن، والثاني يعرض عليه التدريس في جامعة كوينبرة غير بعيد عن لشبونة. إذا عُدْنا إلى قصائده المؤسسة للحداثة الشعرية البرتغالية ذات الصبغة «المستقبلية» الواضحة، لكن مع البصمة الشعرية البيسوية القوية الباهرة مثل «نشيد الظفر» «تزجية الوقت» وغيرهما مِمَّا نشر بين 1914 و1915 على الخصوص، نجد تبريزاً وإلحاحاً على تيمة السفر بصورة جديدة وتجليَّات متفرِّدة في دلالاتها الفلسفية والسيكولوجية والجمالية في آن. ولا شك في أن قصيدة «نشيد بحري» 1914 (2) هي مثال هذا السفر الفريد فهو ليس سفراً فعلياً. إنه محض رغبة رمزيّة في الخروج من الذات ومن حال العجز واللافعل اللذين يشلّان حركة الذات. ... المزيد