في العام 1913 بعث سيغموند فرويد، رائد التحليل النفسي الأكبر، الى زميليه وصديقيه أرنست جونز وساندرو فيرنزي، برسالتين متشابهتين تقريباً، يقول فيهما - بين ما يقوله -: «إنني إذ أنكبّ الآن على وضع كتابي الجديد «المقدس والمحرّم»، يخالجني الشعور بأن هذا الكتاب سيكون أهم أعمالي، وأفضلها وربما آخرها أيضاً. فالحال إنني منذ وضعت «تفسير الأحلام» لم أكتب أبداً نصاً بمثل هذا الاقتناع وهذا الفرح. ومن هنا يمكنني أيضاً أن أتنبأ بما سيلقاه هذا البحث من الاستقبال: عاصفة من الاستنكار». والحقيقة أن فرويد لم يكن مخطئاً في أي كلمة من كلمات هذه الفقرة، اللهم باستثناء أن «المقدّس والمحرّم» كان في طريقه لأن يكون آخر مؤلفاته. لكن المهم ليس هنا. المهم أنه وكما توقع فرويد تماماً، جوبه الكتاب حين صدر بعاصفة من الانتقادات والتعليقات التي أتى معظمها مستنكراً. وكذلك حظي الكتاب بشعبية كبيرة لم تفقها إلا شعبية «تفسير الأحلام» من بين مؤلفات فرويد جميعاً. وكذلك واضح من ثنايا الكتاب، وعمق تحليلاته والصبر الذي لجأ اليه فرويد خلال كتابته، أنه كُتب باقتناع تام وفرح كبير. واليوم إذ نقرأ هذا الكتاب، كما يقرأه الملايين من الذين تُرجم «المقدّس والمحرّم» الى لغاتهم، نجد العلم تخطى الكثير من تأكيداته، لكن الجوهري فيه لا يزال حياً وصالحاً كأساس لأي تحليل في المواضيع التي يطرقها. والمواضيع التي يعالجها فرويد في هذا الكتاب، (الذي نقله جورج طرابيشي الى العربية تحت عنوان «الطوطم والحرام»، في ترجمة تتميز بالتأكيد عن الكثير من الترجمات العربية الأخرى للكتاب نفسه) كثيرة، وإن كان الأساس يتمحور حول «المقدس» و «المحرّم» إنطلاقاً من معتقدات القبائل القديمة لشعوب ما قبل الأديان السماوية، ذلك أن فرويد حقق في هذا الكتاب، عبر ربطه الماضي السحيق بالحاضر الراهن في زمنه، ما كان حاوله سبنسر ودوركهايم وسميث وخصوصاً فرايزر (في القرن التاسع عشر)، أي معالجة المعضلات التاريخية والأنثروبولوجية التي تتعلق بالمقدس (الطوطم، وهو الشيء المقدس لدى الشعوب البدائية، من حيوان أو نبات، أو أي شيء يُتّخذ صنماً يُعبد وتقوم الرابطة القبلية من حوله). وحتى وإن لم يكن فرويد، بالتالي، رائداً في هذا المجال، فإن اليه يعود، وفي هذا الكتاب بالذات، الفضل في ربط فكرة المقدس (الطوطمية) بمسألة حظر الزواج بين أقارب الدم الذين ينتمون الى الدائرة الطوطمية نفسها (زواج المحارم). إضافة الى ما تابعه هنا من الكشف، في هذا المجال أيضاً، عن جذور ما للأوديبية التي حكمت معظم أعماله. وفي هذا السياق أتى عمل فرويد مرتبطاً بتاريخية متواصلة حتى القرن العشرين، ما جعل الباحثين يعتبرون «المقدّس والمحرّم»، «إعادة كتابة التاريخ الديني والجنسي للشعوب البدائية»، وما جعل كلود - ليفي شتراوس يقول عن الكتاب نفسه: «إن هذا الكتاب، بلا ريب، رواية، لكنها رواية أصدق بمعنى من المعاني مما يمكن أن تكونه الواقعة التاريخية المحضة». > في مقدمة كتابه يفيدنا فرويد بأن الفصول الأربعة التي يتألف منها «المقدّس والمحرّم» نشرت أولاً في مجلته «ايماغو» قبل أن تُجمع في كتاب واحد، مضيفاً أنها «تمثل المحاولة الأولى التي قمت بها بغية تطبيق وجهة نظر التحليل النفسي ومعطياته على بعض ظاهرات السيكولوجيا الجمعية التي لا يزال يحيط بها الغموض». وإذ ينبه فرويد الى أن «هذه المباحث تشكو من عيوب وثغرات لا أماري فيها البتة»، يضيف أن الكتاب يتوجه، حقاً، الى «جمهور من غير أهل الاختصاص، ومع ذلك لا يمكن غير قراء متضلعين بقدر أو بآخر في التحليل النفسي أن يفهموه ويقدروه حق قدره. وهو يرمي الى مد جسر بين الاثنولوجيين واللغويين والمختصين في الفنون والتقاليد الشعبية، من ناحية، والمحللين النفسيين من ناحية ثانية، ومن دون أن يتمكن، مع ذلك من أن يقدم لأي من الطرفين ما ينقصه: للأول تمرّساً كافياً بالتقنية السيكولوجية الجديدة، وللثاني تحكّماً كافياً بالمواد التي تنتظر الإعداد والصوغ. ومن ثم كان لزاماً على هذا النص أن يقنع بمجرد إثارة اهتمام كل من الطرفين. وسأغبط نفسي إذا ما أدت محاولتي هذه الى تقريب الشقة بين جميع أولئك العلماء برسم تعاون لا يمكن إلا أن يكون خصباً بالنتائج». > إذاً، بمثل هذا التواضع العلمي الصادق يدنو فرويد من موضوعيه الشائكين المكوّنين محور هذا الكتاب: موضوع المقدس وموضوع المحرّم، ويدنو كذلك من العلاقة الحاسمة بينهما. والحقيقة أن فرويد نفسه يقول لنا، أيضاً، في سياق الكتاب، أن نصه، إن كان يتوصل الى نتائج «شبه نهائية وحاسمة» في ما يتعلق بموضوع «المحرّم»، فإن ما يتعلق بمعضلة «المقدس» يظل بالنسبة إليه ناقصاً، «حيث ان كل ما يمكننا في هذا المجال إنما هو الوصول الى فرضيات لا أكثر». > يقول لنا فرويد في الكتاب، وبعدما يدنو من المفهومين شارحاً بإسهاب، أن مفهوم «المقدس» يحمل في طياته الكثير من الإبهام، في ما يتعلق بالشعوب البدائية، ذلك أن الأشياء «المحرّمة» هي في الوقت نفسه «مقدسة» و «مكروهة». وهذا الالتباس يلعب لدى الشعوب البدائية دوراً أكبر بكثير من ذاك الذي يلعبه لدى الشعوب المتمدنة. ويرى فرويد أن المسألة، تقوم لدى البدائيين على الرغبة في إحلال الحب مكان الكراهية البدائية، والسعي لكي تبدو الممنوعات المرتبطة بالمحظور، طبيعية جداً بالنسبة الى الذين تفرض عليهم، ومن دون أن تكون في حاجة الى أية ذرائع منطقية. وفي هذا المعنى يصبح كل من يخرق «محرّماً»، محظوراً بدوره. أما «المقدس» فلا يكتفي بأن يشكل مرحلة بالغة الأهمية من مراحل تطور الشعوب البدائية، بل يجب اعتباره تعبيراً عن «الدين» الأقدم الذي مارسه النوع الإنساني. وهذا «المقدس» («الطوطم» إذاً) لا يزال يمارس حتى الزمن الحديث لدى القبائل البدائية كما لدى آكلي لحوم البشر. وهؤلاء يتوزعون الى أفخاذ يتحلق كل فخذ منها حول «طوطم» معين، قد يكون حيواناً أو نباتاً أو ظاهرة طبيعية. وترى هذه الشعوب أن «الطوطم» هو في الوقت نفسه جد الفخذ الأعلى، وجنّيه الحارس. أما العلاقات التي تقوم بين قوم لهم الطوطم نفسه، فتكون أقوى من علاقات قرابة الدم. لذلك نراها تفرض واجبات إجتماعية، أولها تفادي الزواج في ما بين أفرادها. ويوضح فرويد أن السمة الأكثر غرابة وغموضاً من سمات ممارسة العلاقة مع الطوطم تتمثل في تلك الاحتفالية المقدسة التي تقام في موعد محدّد ويتم خلالها قتل الطوطم وأكله: وهي ممارسة محرّمة على الأفراد لكنها تمارَس جماعياً حيث ترتدي أهمية فائقة وخصوصاً في مجال تمتين الروابط بين الأفراد، المنتمين الى الفخذ نفسه. وهنا نجد أن هؤلاء الأفراد إذ يتغذون من «الطوطم» نفسه، سواء أكان حيواناً أو نباتاً، يترابطون في ما بينهم بالمقدس. والحال أن فرويد رأى في تلك المأدبة الجماعية التي يتم فيها «قتل» الأب الطوطمي، نوعاً رمزياً من «عقدة أوديب بدائية: أي انه «اكتشف» هنا جذور التمازج بين مشاعر الكراهية والحب والإعجاب والغيرة إزاء الأب، والرغبة المبطنة في الأم، هذه الرغبة التي إذ «تُستبعَد في باطن الوعي» تكمن في خلفية معظم الذهانات التي تعيشها المجتمعات الحديثة، في رأيه. غير أن فرويد يستدرك هنا، كاستنتاج نهائي في كتابه قائلاً: «على أننا، في حكمنا على البدائيين، لن ندع تشابههم مع العُصابيين يشط في تأثيره فينا. فلا بد لنا أيضاً من أن نقيم اعتباراً للفروق الفعلية. فلا ريب في أنه لا البدائي ولا العصابي يعرفان ذلك الفصل الواضح القاطع الذي نقيمه بين الفكر والعمل»... > يعتبر «المقدّس والمحرّم» واحداً من أكثر كتب سيغموند فرويد (1856 - 1939) شعبية وإثارة للسجال، وهو وضعه خلال فترة تألق وازدهار في حياته، وفي زمن كانت كتبه انتشرت، حتى في أوساط غير متخصصة، لتجعل منه واحداً من مفتتحي الحداثة العلمية في القرن العشرين. وهو كان في ذلك الحين نجم فيينا من دون منازع، وكانت «المدارس» و «التيارات» التي أسّسها، أو تنتمي اليه من دون أن تكون له يد في تأسيسها، ذات صلة بكل أنواع العلوم والفنون والآداب، وتنتج أسماء كبيرة في الكثير من المجالات، وفي مقدمها - بالطبع - مجال التحليل النفسي. ولئن كان «تفسير الأحلام» و «المقدّس والمحرّم» أشهر كتابين لفرويد والأكثر ترجمة، فإن له أيضاً عشرات النصوص والكتب والمحاضرات الأخرى التي تشكل ذخيرة علمية ثرية، حتى وإن كان كثر يرون الآن أن الزمن تجاوز بعضها.