«الأوقات تتغير»، عنوان هذه الأغنية لبوب ديلان كان ردّ أمينة سر الأكاديمية السويدية سارة دانيوس على موجة من الأسئلة التي وجهت إليها حول منح الموسيقي الأميركي المخضرم بوب ديلن جائزة نوبل للآداب لعام 2016، بخلاف كل التوقعات. وفي وقت ارتفعت فيه صيحات الاستهجان واستحال الخبر مادة نقاش دسمة، نقدياً وفايسبوكياً، آثر الفنان الفائز بوب ديلان الصمت عقب سماع الخبر، هو المعروف بأنه لا يكترث ولا يفرح كثيراً عند نيله الجوائز. لا شكّ في أنّ صورة ديلان الفنان (مطرباً وعازفاً) هي التي انطبعت في أذهان الناس أينما كانوا، لكنّ هذا الفوز يدفعنا من دون شكّ الى إعادة قراءة بوب ديلان الشاعر، وبعينٍ أخرى. قصائد ديلان خرجت من صميم الواقع الذي غاص فيه، والمرحلة التي عاصرها. هو ابن الـ Beat generation، تيار أدبي وفني عرفته الولايات المتحدة في خمسينات القرن العشرين، مثّله عدد من الكتّاب والفنانين في مقدمهم جاك كرواك، صاحب التسمية التي قصد فيها شلّته الأدبية (جون هولمز وآلن غينسبرغ وويليام برغوس). مثل آلاف الشباب في الولايات المتحدة، تأثّر ديلان بالمفاهيم الخاصة لهذا التيار فتبنّى قضايا الحرية والسلم. استحدث مدرسة غنائية - شعرية خاصة به، عُرفت فيما بعد بالـ «ديلانسكية»، وتميزت بأغانٍ حماسية - احتجاجية، وبقافية ذكية، وبثيمات مسّت الأجيال الجديدة وجعلتها تتذوق الشعر عبر الغناء. خلال مسيرته، نظم ديلان الشعر بأسلوبه الخاص، غير أنه لم ينفصل عن الحركة الشعرية الكلاسيكية، فقرأ عظماء الشعر في أوروبا وأميركا وأحبّ منهم الفرنسي رامبو. ولو قرأنا قصائده، بعيداً عن موسيقاه، لوجدنا أنّ كاتبها شاعر ثاقب الرؤية، بسيط الأسلوب، عميق المعنى. لكنّ النقاد لم يفلحوا في الفصل بين ديلان الشاعر و «النجم» (الموسيقي)، فسلكوا مساراً قاسياً ضدّ فوزه، معتبرين «أن عالماً يمنح بوب ديلان جائزة نوبل للآداب، هو العالم نفسه الذي يرشح دونالد ترامب للرئاسة!». نعم، المفاجأة لم تكن عادية وفوز ديلان لن يمرّ عابراً، لكنّ المتابعين الحثيثين لجائزة نوبل وترشيحاتها يعلمون أنّ اسم ديلان ورد ضمن قائمة المرشحين غير الجديين للفوز بجائزة نوبل، وإن مرات قليلة فقط. لكنّ الخبراء استبعدوا فوزه لاعتقادهم بأن الأكاديمية السويدية لن تكسر تقليداً امتد على مدى أكثر من قرن بمنح الجائزة لشاعر أو روائي، لكنهم كانوا مخطئين. مع ذلك، بدا ضمنياً أن الأكاديمية حاولت تلافي الانتقادات عبر تبرير اختيارها، وهو أمر لم تفعله من قبل وعلى الأرجح لم تكن لتفعل لو كانت الجائزة من نصيب فيليب روث أو هاروكي موراكامي أو ميلان كونديرا مثلاً. اعتبرت سارة دانيوس أن بوب ديلان «يكتب شعراً للأذن يجب أن يُلقى بصوت عال. إذا ما فكرنا في اليونانيين القدامى مثل صافو وهوميروس، فهم كانوا ينظمون الشعر ليتم إلقاؤه برفقة آلات موسيقية، وكذلك أعمال ديلان»، مشيرة إلى وجود «تماسك كبير» بين أفراد الأكاديمية حول هذا الخيار، وكأنها بذلك تنفي الشائعات التي ترددت حول سبب تأخير الإعلان عن الفائز بجائزة نوبل للآداب لنحو أسبوع، وعلى عهد غير مسبوق، جراء خلاف بين أعضاء الأكاديمية حول الصنف الأدبي وليس الشخصية المرشحة للفوز. يجد ديلان نفسه اليوم في مصاف يوجين أونيل وبيرل باك وتي أس إيليوت وويليام فولكنر وإرنست همنغواي وجون شتاينبيك وتوني موريسون وغيرهم من مواطنيه الذين حصلوا على التكريم عينه، لكنّ صدمة الفوز والخبر الذي استُقبل بموجة ضحك وصيحات الاستهجان من داخل قاعة الأكاديمية الملكية الفخمة في ستوكهولم، ستظلّ تلاحق ديلان وتضع إنتاجه الشعري موضع شكٍّ وسؤال. ولكن، مهما يكن موقفك من ديلان (1941) فإنّه شاعر يملك حرفة الكتابة، وهو يُقدّم الكلمة على اللحن. وقد سبق أن تُرجمت قصائده الغنائية الى لغات العالم، ومن أهمها الفرنسية. لقد استطاع بقصائده، قبل نغماته، أن يسهم في انتشار الوعي السياسي والاجتماعي وثقافة رفض الحروب والدم. وثمة مؤرخون يعتبرون أن ديلان لم يكتب مجرد أغنيات بل مقطوعات شعرية ذات قيمة أدبية صرفة تجعلها في مصاف الشعر العالمي، ربما ساعدها اللحن على الانتشار لكنها في العمق قصائد تستحق كل ثناء وتقدير. مع اندلاع الحرب الأميركية على فيتنام، أصبحت أغنياته مثل «في مهب الريح» و «الأوقات تتغير» أناشيد للمقاومة الرافضة للحرب، وللحركات المدنية المطالبة بالعدالة الاجتماعية والقانونية بين البيض والسود، وبرفض استخدام السلاح النووي. يقول ديلان في «مهب الريح»: «كم من الطرقات ينبغي للإنسان أن يقطعها/ قبل أن ندعوه رجلاً؟/ كم من البحار ينبغي للحمامة البيضاء أن تطير فوقها/ قبل أن تنام في الرمال؟/ وكم من القنابل ينبغي أن تقذفها المدافع/ قبل أن تُحظر الى الأبد؟ ... الجواب، يا صديقي، في مهب الريح/ الجواب في مهب الريح». ركز ديلان في قصائده المغناة على أوجاع المواطن الأميركي العادي، مشكلاته وخيباته، انكساراته وآماله، واتسمت كلماته بأنها متعددة التفسيرات بحيث إن كل مستمع يستطيع أن يتماهى معها أو يسقطها على حياته من زاوية ما، كما هي الحال في أغنية «أطرق باب السماء»، عن شرطي أصيب أثناء ملاحقة مجرمين: «أماه... انزعي هذه الشارة عن صدري/ لم أعد أقوى على النظر/ كل شيء غدا مظلماً في عيني/ أشعر كأنني... أطرق باب السماء/ ... أماه، ضعي مسدسي على الأرض/ لم أعد قادراً على التصويب/ وتلك الغيمة الطويلة المظلمة/ تدنو من الأرض/ أشعر كأنني... أطرق باب السماء». بصوته الجامح، سجل ديلان الكثير من الألبومات التي تتمحور حول الأوضاع الاجتماعية، الدين، وشجون الحب. واشتهرت كذلك أغنية «مثل حجر يتدحرج» التي اعتبرت من أهم أغنياته على الإطلاق وأكثرها انتشاراً. فيها تحدث عن جيل من الشباب الأميركي ممن فقد بوصلته وخسر حياته جراء تخليه عن القيم، عن فتاة جميلة أصبحت مشردة في الطرقات لأنها لم تتمكن من حماية نفسها. «كان الناس ينادونك أيتها/ الجميلة الطائشة.../ احذري... ستسقطين/ فظننت أنهم يمزحون/ أنتِ اعتدت على السخرية من أي فرد بدا عليه الإحباط/ الآن أنتِ لا تتحدثين بصوت مرتفع/ لا تبدين مغرورة/ عندما تضطرين لتسول وجبتك المقبلة/ كيف يبدو هذا، كيف تشعرين/ حين تكونين وحيدة... ولا تعرفين طريق البيت/ مثل نكرة كاملة.../ مثل حجر يتدحرج؟/ ... حسناً يا آنسة «وحيدة»/ قد درست في أرقى المدارس، لكنك تعرفين/ أنهم كانوا يعصرونك فيها/ ولم يعلمك أحد كيف تعيشين على قارعة الطريق/ لكنك الآن مرغمة على اعتياد ذلك». ديلان الذي عرف بأنه صوت مناهض للحرب وقريب من حياة المهمشين والمضطهدين، هو آخر من يمكن اعتباره داعماً لثقافة المؤسسة الأميركية وهو ما ينفي الاتهامات التي سبق وأن وجهت للأكاديمية السويدية بـ «تسييس» خياراتها والابتعاد عن الموضوعية والمهنية. فلو كان الهدف اختيار أميركي للفوز، لكان اختيار روث أسهل بكثير كونه من أبرز المرشحين للجائزة منذ سنوات. تلقى ديلان العديد من الجوائز منها 11 جائزة غرامي وجائزة أوسكار واحدة وغولدن غلوب واحدة، وفي عام 2012 تلقى وسام الحرية الرئاسي من الرئيس الأميركي باراك أوباما وهو من أشد المعجبين به. عندما سئل عن رأيه باختيار ديلان، قال عضو الأكاديمية السويدية بير واستبرغ «إنه أعظم شاعر غنائي على قيد الحياة»، ورداً على سؤال عما إذا كان يعتقد أن الخطاب الذي يلقيه الفائز بجائزة نوبل في ستوكهولم في وقت لاحق من السنة سيتحول إلى حفلة موسيقية، أجاب: «دعونا نأمل بذلك».