القاهرة: نصر عبد الرحمن سادت حالة من الصدمة والإحباط في الأوساط الأدبية عقب الإعلان عن فوز المطرب الأسطوري بوب ديلان بجائزة نوبل للآداب، فللعام الثاني على التوالي، يقع اختيار لجنة نوبل على اسم خارج دائرة التوقعات، والاحتمالات والمنطق، حيث يبدو أن اللجنة القائمة على اختيار الفائز بجائزة نوبل قررت العصف بتاريخ الجائزة وقيمتها، لطالما ثارت تساؤلات حول أحقية وقيمة بعض الأسماء التي نالت الجائزة الأرفع على مستوى العالم، وظهرت أصوات تنتقد ما اعتبرته تحيزًا لأسباب غير أدبية بالمرة في اختيار الفائز، إلا أن الأمر لم يصل إلى هذا القدر من الفجاجة من قبل. في العام الماضي، وقع اختيار اللجنة على البيلاروسية سفيتلانا أليكسييفيتش للفوز بالجائزة عن عدة تحقيقات صحفية ليس لها قيمة أدبية حقيقية مُقارنة بأسماء كبيرة في عالم الأدب، تستحق نوبل وما هو أكبر منها. كان فوزها صدمة كبيرة في الأوساط الأدبية العالمية، واعتبره البعض نوعًا من المُكايدة السياسية الرخيصة لروسيا. أما هذا العام، فقد فجرّت لجنة نوبل مفاجأة من العيار الثقيل، بإعلان فوز المطرب الأمريكي الأسطوري بوب ديلان باعتباره كاتب أغانٍ، وهو ما أثار عاصفة حادة من الانتقادات الفورية على وسائل التواصل الاجتماعي، تجاوز الانتقاد إلى السخرية اللاذعة من هذا الاختيار الغريب، الذي تجاوز أسماء كبيرة في عالم الإبداع، منها الروائي والمُفكر الكيني نجوجي واثينجو، والروائي الياباني موراكامي، والشاعر السوري أدونيس. قالت سارة دينيس سكرتيرة الأكاديمية السويدية إن الاختيار قد يُثير الدهشة، لكن ديلان يستحق الجائزة لأنه شاعر عظيم، شاعر عظيم وفق تقاليد اللغة الإنجليزية الشفوية. لقد مارس كتابة الأغاني لمدة 54 عاماً، تمكن خلالها من تجديد إبداعه على نحو مُستمر، وخلق هوية جديدة لنفسه، وأعرب كذلك عُشاق المطرب الأمريكي عن سعادتهم بفوزه بالجائزة الأدبية، ورأى البعض نقطة إيجابية في فوز ديلان، وهي ألا يقتصر الإبداع على الرواية والمسرحية والشعر فقط، وأشاروا إلى سعي الأكاديمية السويدية إلى توسيع نطاق الإبداع ليشمل أنواعا مُهدرة الحق، ومن بينهم الروائي الإنجليزي الكبير فيليب بولمان، والكاتبة الأمريكية الكبيرة جويس كارول أوتس التي اعتبرت مُجمل أعمال ديلان الغنائية ذات طابع أدبي، ومن المعروف أن جويس من أشد المُعجبين بالمطرب الأمريكي، وكتبت أكثر من إهداء في صدارة أعمالها إليه، ومن الطريف أنها كانت من بين الأسماء المُرشحة باستحقاق لنيل هذه الجائزة. وصرّح شيموس بير؛ أستاذ اللغة الإنجليزية بجامعة أكسفورد لموقع سكاي نيوز بأن فوز ديلان هو فوز مُستحق لأنه واحد من أعظم الشعراء، وهو تينسون هذا العصر، وقال بعض المُتعصبين للمطرب، الذي فاز بأرفع الجوائز الموسيقية، إن فوزه بنوبل في الأدب يرفع من قيمة الجائزة، وليس العكس. لكن هؤلاء كانوا قلة مقارنة بعاصفة من الانتقادات التي وصفت ما حدث بالسخف، وبأنه مجرد مزحة لزجة، وسخر البعض كذلك من سارة دينيس لأنها عقدت مقارنة بين بوب ديلان وبين هوميروس؛ الشاعر الإغريقي الكبير، لأنه كان يكتب قصائده ليُلقيها على الجمهور هو الآخر، و أحجم كبار الأدباء عن انتقاد ما حدث حتى الآن، إلا أن أغلب القراء والمُتابعين على موقعي تويتر وفيسبوك هاجموا الخيار، وطرح بعضهم اسم ليونارد كوهين باعتباره كاتب أغانٍ أكثر إبداعا من ديلان بمراحل، ردًا على القول بوجاهة اختيار أحد كُتاب الأغاني. لا يختلف من ينتقدون اختيار بوب ديلان على قيمته الفنية كمُطرب وموسيقي نجح في التعبير عن جيل بأكمله، وامتد تأثيره إلى الأجيال التالية. وبالفعل يُعتبر ديلان أحد أعظم مطربي العالم على الإطلاق وله ملايين المُعجبين، وصاحب رقم قياسي تاريخي في مبيعات التسجيلات الغنائية؛ يتجاوز مئة مليون أسطوانة وشريط كاسيت، ومشاهدات أغانيه على موقع يوتيوب بالملايين كذلك. ولد ديلان عام 1941، وبدأ الغناء وعزف الموسيقى في العشرين من عمره، وكان يكتب أغانيه ويكتب لغيره من المطربين. واكب ظهوره حالة فوران اجتماعي وسياسي كبير في الستينيات بسبب الحرب الباردة والاستقطاب السياسي والحرب على فيتنام وحركة الحريات المدنية الأمريكية، وانتشار ظاهرة البوهيمية بين الشباب، وظهور ما يُسمى ثورة الشباب في فرنسا وانتقالها إلى الولايات المتحدة بعد ذلك. تناولت أغانيه هذه الموضوعات، وكانت ذات طبيعة اجتماعية وفلسفية قوية، لذلك اعتبره كثيرون صوت الشباب في ذلك الوقت. ارتبط اسمه كذلك بموجة موسيقى البوب التي اجتاحت العالم في الستينيات، ورأى البعض أن تأثيره أقوى من تأثير ألفيس بريسلي. تزايدت شهرة ديلان بشكل كبير لدرجة جعلته يميل إلى الانعزال والهرب من الأضواء، والتنصل من أي دور سياسي أو اجتماعي. كرّس ديلان حياته للموسيقى والغناء والفن التشكيلي، واستطاع تقديم أعمال متنوعة وقادرة على تجاوز الزمن. بدأت الهالة التي أحاطت به تزوى منذ مطلع الثمانينيات، إلا أن تأثيره على الثقافة الأمريكية كان كبيرًا لدرجة أن لجنة جائزة بولتزر منحته جائزة خاصة لإسهامه في إثراء الثقافة الأمريكية وقدراته الشعرية الخاصة. ورغم أنه لم يُعلن بعد عن موقفه من الفوز بالجائزة، إلا أن المعروف عنه عدم اهتمامه بالجوائز مهما كانت قيمتها، ورغبته في تسليط الأضواء على أعماله وليس على شخصه. يرى بعض عشاقه أن فوزه بالجائزة تتويج لتاريخ طويل من الإبداع؛ لأنه شاعر مُبدع نجحت قصائده في تحريك مشاعر ملايين البشر على مدار نصف قرن. نشر ديلان ديوانًا من الشعر الحُر بعنوان العناكب الكبيرة عام 1971، لكنه لم ينل حظه من النجاح والشهرة، وهناك جدل حول قيمته كشاعر؛ لأن نجاح قصائده ارتبط بنجاح أغانيه. ولكن في الواقع، تتسم قصائده بجمال خاص ينبع من قوة موسيقاها، ونزعتها الدرامية التي تنطوي على صراع واضح وحاد، واستفادتها من تقنيات السينما، وصورها الطازجة المؤثرة. بوب ديلان مطرب وموسيقي أسطوري بكل المقاييس، ولكن هذا لا يُبرر فوزه بجائزة أدبية بهذا المستوى، وربما كان فوزه هو القشة التي تقصم ظهر البعير، وقد يتسبب في خفوت بريق نوبل في الأدب، التي تبدو أنها توقفت عن لعب الدور المنوط بها، وهو تتويج مسيرة كاتب كبير بذل حياته في سبيل الارتقاء بالإبداع، أو الكشف عن كنوز أدبية مخفية، وتسليط الضوء على إبداعها وربما إبداع منطقة جغرافية بأكملها في بعض الحالات. إذا استمرت خيارات لجنة نوبل في الأدب على هذا المنوال، فقد تفقد قيمتها إلى الأبد، وينصرف عنها الأدباء الجادون والمحبون للأدب، ويبحثون عن جوائز أخرى، قد تكون قيمتها المادية أقل، لكنها تحترم قيمة الإبداع وحدوده.