على إحدى قنوات العرب الشهيرة يقول المفكر اللبناني، وأستاذ الإعلام السياسي بالجامعة اللبنانية، الدكتور نسيم خوري "لم تكن من الصدفة المحضة أن تختفي عواصم التاريخ والثقافة العربية الكبرى في بغداد وصنعاء ودمشق ثم تظهر لنا لتحل مكانها مدن الأبراج الزجاجية وشوارع الحداثة في الرياض وأبوظبي ودبي والدوحة وجدة التي تحاكي وتتفوق على المدن الغربية الخالصة". يضيف "ما حصل في هذا الإحلال والتبديل ليس إلا نتاج السياسة الأميركية والغربية التي تريد سلخ العرب عن إرثهم وثقافتهم وتاريخهم... إلخ". وكل جملة في ثنايا تحليله الطويل ليست بأكثر من "شنشنة" نعرفها جيدا من فئام قليلة من الإخوة الكرام من عرب الشام، حيث بدأ التصنيف بين عرب المدر وعرب الشجر. سأقول له، أستاذي، المعادلة جدا أبسط تفكيكا وتحليلا مما تتصور. نحن هنا استثمرنا في ركنين لا ثالث لهما: التعليم والوحدة الوطنية. ولا تعتقد، أستاذنا الكبير لوهلة أن "البعث" الخليجي هو النفط وحده، وإن كنا شاكرين على هذه النعمة. هو ذات النفط الذي تسبح فوقه العراق وليبيا والجزائر قبل أن نستيقظ على اكتشاف هذه الكوارث التنموية في هذه البلدان الشقيقة. هو نفسه النفط الذي تسبح دولة مثل "فنزويلا" على احتياطي منه يفوق الاحتياط السعودي للدهشة ثم تكتشف فيها شعبا تحت خط الفقر بعنتريات هوغو شافيز. المعادلة هنا بسيطة. نحن بنينا الأبراج ومدن الحداثة على أنقاض الحروب والفرقة التي أفرزت كل أيام العرب السوداء عبر التاريخ. وإن كان لديكم في هذا اللبنان الجريح عشر طوائف فقد كان لدينا في هذه الصحراء ما هو أخطر وأعنف. كنا قبل عبدالعزيز بضعا وأربعين قبيلة تحترب فيما بينها لسنين على بئر الماء وجرح الناقة وكلأ المواشي. سأفتخر اليوم أننا من أذكى الأمم والشعوب التي تعلمت من التجربة. وفي مشوار الوحدة الوطنية استطعنا تحويل عصبة القبيلة إلى المتحف، وأحيانا نتذاكى عليها بالنكتة. سأدعوك إلى شارعي القصير في مدينة صغيرة حيث نحن عشرة جيران من ست قبائل لم يعد لها من وجود إلا في النسب، مثلما سأدعوك إلى هذه الرياض لتكتشف أن سكانها الأصليين لا يشكلون منها سوى أقل من 6%. نحن لم نرفع بها الأبراج إلا بعد أن مزجنا كوكتيل الصلصال القبلي المتناحر في قواعد كل برج حتى كان لنا ووحدنا براءة اختراع لون جديد اسمه "التفاح الزهري". نحن رفعنا الأبراج كي ترتفع رؤوسنا عن أرض القبيلة والطائفة التي أكلت جلودنا قبل الإمام المؤسس. نحن مع كل تعيين أو ترشيح لا نسأل أبدا عن القبيلة ومسقط الرأس، بل نذهب فورا إلى سؤال العصر: ما هي جامعته؟ هنا مثلا، يرأس "بلدياتي" أحدث جامعات الشمال، وأيضا يرأس جامعتي بالجنوب شاب جاء من تخوم المدينة المنورة، ويؤسفني أستاذنا الكبير أن أقول لك بالمثال إن منصب رئيس جامعتك أو محافظ في دائرتك أنت بالذات ما زال شاغرا لمدة عام، ومع كل تسريب بالترشيح ينهض عملاق الطائفية. هنا في بلدي يرأس صهري إحدى أهم دوائر الأمن بحدود الشمال، ومن ذات الشمال جاء لنا من يرأس جهاز الشرطة، دون أن تقف بنا دوامة الأسئلة لثانية واحدة. نحن هنا رفعنا الأبراج لا بمؤامرة أميركية أو هيمنة غربية، كما قلت، بل للإيمان المطلق بوطن فوق حدود القبيلة والإقليم، ونحن رفعنا الأبراج، أستاذي، لأننا استوعبنا مرارة تاريخنا وسموم تجاربنا قبل عبدالعزيز، كما يفعل أي شعب حي. نحن هنا رفعنا الأبراج حين تفرغ غيرنا حتى، وللأسف الشديد، لمصطلحات المحاصصة وحقوق الطائفة حتى في أكوام الزبالة في مدينة النور والتنوير العربي. نحن رفعنا الأبراج لا لأننا الجنسية الأعلى في أعداد الطلاب بجامعات الكون، ولا لأننا المؤمنون بالحق الإلزامي لطفل الرابعة في أن يذهب للروضة، بل لأننا شعب ذكي لماح قرأ تاريخه فوجد فيه صفحات داحس والغبراء وحرب البسوس ثم قرر أن يستوعب كل هذا العبث كما يفعل كل شعب حي. فجأة شاهد شابا يافعا اسمه - عبدالعزيز - فقرأ في وجهه تفاصيل الحلم وأمل المستقبل. فجأة ترك السيف والرمح وحمل الطوب وألواح الزجاج وعبقرية الآلة.