قبل كلّ شيء، يحتاج لبنان الى رئيس للجمهورية. من يرفض النزول الى مجلس النوّاب لانتخاب رئيس للجمهورية، انّما يريد تدمير الجمهورية لا اكثر. لذلك لا يمكن إيجاد أي عذر لنائب لبناني يقاطع جلسات انتخاب رئيس للجمهورية منذ ما قبل نهاية ولاية الرئيس ميشال سليمان في 25 مايو 2014، أي منذ ما يزيد على عامين ونصف العام، بالتمام والكمال. اقلّ ما يمكن قوله عن النائب المقاطع انّه يعمل من اجل تغيير طبيعة النظام في لبنان... او انّه جاهل الى درجة لا يستوعب النتائج التي يمكن ان تترتب على مقاطعة جلسات انتخاب الرئيس. مطلوب رئيس للجمهورية لحماية لبنان ومنع تغيير النظام القائم منذ إقرار اتفاق الطائف في خريف العام 1989. هذا النظام يحتاج من دون شكّ الى إصلاحات. الطائف ليس كتابا مقدّسا. لكنّ هذه الاصلاحات لا يمكن الّا ان تكون نحو الأسوأ في غياب التوافق الوطني وفي ظلّ سلاح مذهبي. يعمل هذا السلاح غير الشرعي على «تبييض» وضعه بفرض دستور جديد عبر ما يسمّى «المؤتمر التأسيسي» الذي دعا اليه قبل سنوات عدّة الأمين العام لـ«حزب الله» السيّد حسن نصرالله. في غياب رئيس للجمهورية، يبدو لبنان معرّضا لمخاطر كبيرة. من بين هذه المخاطر فرض نظام جديد على اللبنانيين لا يعود فيه مجال سوى لتكريس التعطيل عبر إيجاد نائب لرئيس الجمهورية تابع لـ«حزب الله»، أي لإيران، يكون رئيس الجمهورية الفعلي بصلاحيات تمنع أي قرار يتخذ على الصعيد الوطني يصبّ في مصلحة البلد. هذا هو الواقع الذي لا يدركه مقاطعو جلسات انتخاب رئيس للجمهورية. من لا يدرك هذا الواقع، خصوصا النواب المسيحيون التابعون لميشال عون الذين يصرّون على ان يصبح رئيسا للجمهورية بسلاح «حزب الله»، انما هو شريك في اللعبة التي يمارسها«حزب الله». لا يدرك عون ان لعبته هذه لن توصله الى الرئاسة بمقدار ما انّه يستخدم في عملية من نوع آخر تصبّ في نهاية المطاف في تكريس الوصاية الايرانية على البلد. مفهوم ان يقاطع«حزب الله»جلسات انتخاب رئيس الجمهورية. لدى الحزب اجندة خاصة به هي الاجندة الايرانية. يظنّ الحزب ان الوقت يعمل لمصلحته وان«المؤتمر التأسيسي»آت لا محالة ما دام قسم من المسيحيين في لبنان، يمثلهم عون، يعملون من اجل بلوغ النتيجة نفسها. المؤسف ان عون لا يتعلّم. لم يستوعب انّه استخدم في العام 1990 من اجل افراغ اتفاق الطائف من مضمونه وتحويله من اتفاق يحظى برعاية دولية وعربية الى اتفاق يضع لبنان تحت الوصاية السورية. عندما ادخل عون، بعقله الانقلابي، الجيش السوري الى قصر بعبدا ووزارة الدفاع اللبنانية في اليرزة في ذلك اليوم المشؤوم، يوم الثالث عشر من أكتوبر 1990، تبيّن كم ان القائد السابق للجيش اللبناني الذي جيء به الى قصر بعبدا لا علاقة له بالدولة ومؤسساتها ولا يمتلك أي قدرة على فهم المعادلات الإقليمية والدولية. كان عون، بعد انتهاء ولاية الرئيس امين الجميّل، رئيسا لحكومة عسكرية موقتة ذات مهمة محصورة بانتخاب رئيس للجمهورية. خلال اقامته في قصر بعبدا، انتخب النواب رئيسا للجمهورية بعد إقرار اتفاق الطائف الذي اعلن رئيس الحكومة الموقتة رفضه له. كان همّه محصورا بان يكون هو، ولا احد غيره، رئيس الجمهورية. كان ولا يزال مستعدا لكلّ شيء من اجل ان يكون رئيسا للجمهورية في بلد كان في العام 1989 في حاجة اكثر من أي وقت لشخص مثل رينيه معوّض. مُنع رينيه معوّض من دخول قصر بعبدا كي يكون فريسة سهلة للنظام السوري الذي اغتال الرئيس اللبناني المنتخب في منطقة يتحكّم بكل مفاصلها. كان منع رينيه معوّض من دخول قصر بعبدا الخدمة الكبرى التي ادّاها عون للنظام السوري. اعلن عون الحرب على النظام السوري، لكنه لعب على ارض الواقع، دور الأداة الأفضل، ان لم يكن الأداة المفضّلة، لديه. فمنذ اغتيال رينيه معوّض صار النظام السوري من ينفّذ اتفاق الطائف على طريقته. لم يكتف عون بذلك. لم يعرف ان نظام صدّام حسين انتهى يوم غزوه للكويت في الثاني من أغسطس 1990. كان نظام صدّام الحليف الاوّل لعون. معروف كيف ارسل له دبابات استخدمها في نهاية المطاف في حربه على«القوات اللبنانية»وعلى الدكتور سمير جعجع بالذات. لا حاجة الى العودة الى تفاصيل ما حدث في الثالث عشر من أكتوبر 1990، عندما دخل النظام السوري الى قصر بعبدا ووزارة الدفاع للمرّة الاولى منذ استقل لبنان. في ذلك اليوم، لجأ عون الى السفارة الفرنسية تاركا جنوده في ساحة المعركة بعدما تبيّن ان حساباته العسكرية والسياسية ورهاناته الاقليمية لم تكن في محلّها اطلاقا. بعد الطائف، أراد عون تدمير لبنان. أراد ان يدفع البلد ثمن عدم الاتيان به رئيسا للجمهورية. لم يستطع عقله التبسيطي فهم معنى غزو صدّام للكويت ولا معنى انضمام حافظ الأسد الى الحلف الدولي الذي قادته الولايات المتحدة من اجل إعادة الكويت الى أهلها. لم يتغيّر عون. لم يتغيّر عقله الانقلابي. عندما يقبل بان يكون انتخابه رئيسا للجمهورية ثمنا لتوقف ايران عن تعطيل لدور مجلس النوّاب، فالف سلام عندئذ على لبنان... وعلى ما بقي من مؤسساته. كان مفترضا ان يتعلّم عون شيئا في ما يزيد بسنة على ربع القرن. نجده في السنة 2016 يكرّر ما فعله في 1990. كلّ ما في الامر انّه تحول من عدو للنظام السوري الى معجب به. لم يعد يسأل حتّى عن اللبنانيين المحتجزين في سجون هذا النظام منذ سنوات طويلة. تحوّل عمليا من أداة استخدمها هذا النظام في فرض وصايته على لبنان الى أداة تستخدمها ايران من اجل إحلال وصايتها مكان الوصاية السورية. صحيح انّ«حزب الله»، الذي تتحكّم به ايران، لا يريد رئيسا للجمهورية. وهذا ما كشفه الرئيس سعد الحريري عندما اعتبر عون من بين الأسماء المطروحة لديه. لكن الصحيح أيضا انّ لا مانع من استخدام ايران للرجل، تماما مثلما استخدمه النظام السوري في الماضي. فعون يمتلك عقلا انقلابيا، وهو يمثّل بالفعل قسما من المسيحيين ذوي القدرات العقلية المحدودة في لبنان. لا شيء يحول دون عصره حتّى آخر نقطة في عملية مدروسة تستهدف تحويل لبنان مجرّد مستعمرة إيرانية. هل صدفة ان شعار التيار الذي يتزعمّه عون هو البرتقالة؟ عصر النظام السوري هذه البرتقالة في الماضي، لماذا لا يعصرها حاليا ملالي ايران وممثلهم في لبنان ما دام قسم من مسيحييه لا يدرك اهمّية ان يكون للبلد رئيس للجمهورية. رئىيس يمتلك قبل ايّ شيء القدرة على ان يكون وفاقياً فضلا عن المؤهلات العقلية التي تسمح له باستيعاب ما يدور في المنطقة في هذه الظروف المصيرية التي يجتازها الشرق الاوسط.