في سوريا ما قبل الثورة، كان الجميع يفرض على نفسه رقابة ذاتية، من الكاتب والشاعر، إلى الرسام والممثل، إلى المخرج، إلى المتلقي، وهكذا دواليك، حتى الوصول إلى الطفل. فترى اللوحات الكاريكاتورية تعرف حدودها، والمسرحيات الناقدة تضرب ضربتين، كما يقال -ضربة على الحافر وأخرى على النافر- والمؤلف الدرامي يعرف كيف يقص لنفسه دون الحاجة لمقص الرقيب أصلاً. حتى الماغوط ونزار قباني وغيرهما من الشعراء والكُتاب الكبار كلهم كانوا يدورون في هذا الفلك، فترى الجميع يؤلف ويمثل ويرسم دون أن يذكر المشكلة الرئيسية والاكتفاء بالحديث عن تبعاتها ونتائجها. نعم حاول البعض الخروج من هذه الدائرة والتمرد على هذا الاتفاق "الضمني" بين المثقف والسلطة، لكنه لم يلبث أن رأى مقص الرقيب له بالمرصاد، والرقيب هنا سيبدأ بقص جناحيه أولاً، قبل أن يقص له تجاوزاته التي اقترفها؛ ليكون عبرة لغيره ممن يفكر في تجاوز ما اتفق عليه ضمنياً. وكما كل شعوب العالم، فالفنانون والكتاب والشعراء والمشاهير هم الملهمون للبقية، فترى البقية من المواطنين يقصون على منوالهم، حتى بات تلميذ المدرسة يُعمل مقص الرقيب في موضوع التعبير الذي يكتبه في حصة التعبير والقراءة. فرضية نظرية اللاشعور: فمثلاً، لو كانت المشكلة التي نتحدث عنها هي في النقل العام وباصات النقل داخل المدينة -الدوار الشمالي- وهذه المشكلة تحدث بسبب أن صاحب خط الباص هذا لا يشغّل سوى 10 باصات من أصل 50؛ ليريح 40 "باص" آخر كان من المقرر تشغيلها حسب عقده مع الوزارة. وهو يقوم بذلك لتوفير "المحروقات وتصليح الأعطال ورواتب سائقين.. إلخ"، وبالتالي يجني أرباحاً مضاعفة، لكنه بذلك يجبر الناس على الوقوف داخل الباص كالمخلل داخل "البرطمان"، وحيث إن صاحب الباصات تلك هو عضو في مجلس الشعب -عن الجبهة التقدمية- فقد احتكر خط نقل "الدائري الشمالي"، وتم قبوله كمستثمر وحيد للخط؛ لأنه بعثي أو بسبب انتمائه لأقلية حاكمة أو متزوج من امرأة كنيتها "الأسد أو مخلوف أو شاليش". تقول نظرية اللاشعور هنا: إن جميع المواطنين "وباللاشعور الجمعي" سيتحدثون عن المشكلة بغض النظر عن مسببها الرئيسي والاكتفاء بالحديث عن النتائج. قد يوضع الّلوم على الوزير الذي استورد باصات ضيقة، قد يوضع الّلوم على السائقين الذين يقودون ببطء، ويملأون الباص بركاب فوق طاقة تحمّله، قد يوضع الّلوم على المواطنين الذين ينجبون أطفالاً كثراً، ولا ينظمون الحمل، فلا تتسع لهم باصات النقل. قد يوضع الّلوم على أي شيء عدا السبب الرئيسي الواضح كالشمس، فإذا تجرأ أحدهم ونطق به، فسيرى الرد من المواطنين أنفسهم المكبوسين كالمخلل داخل الباص، وسيتعرض للطرد ويعود لبيته مشياً على الأقدام، كنوع من العقوبة على تجرئه وتجاوز للاتفاق الضمني المعقود بين المواطن والأسد الحاكم. لكن هذا كان قبل الثورة، أما اليوم فأصبحنا نرى "نظرية اللاشعور في الرقابة الذاتية" وقد أصبحت كونية؛ فترى الأمم المتحدة تتحدث في كل ما يخص مشاكل سوريا، عدا السبب الرئيسي للمشكلة، وهو بشار الأسد الذي افتعل كل هذه المشاكل للحفاظ على كرسيه. فمثلاً، عندما يمنع الأسد دخول المساعدات إلى حلب المحاصرة، تطلق الأمم المتحدة تصريحاً تقول فيه: نحث جميع الأطراف المتصارعة في سوريا على السماح لقوافل المساعدات بالدخول إلى حلب. وترى الإعلام العالمي يتصرف على ذات النحو "في الرقابة الذاتية اللاشعورية"، فتراه يتحدث عن الموت والجوع والحصار، بل ويتحدثون عن السلاح الكيميائي دون ذكر اسم بشار الأسد. وذاته المواطن السوري الذي اقتدى بمثقفيه وأخذ عنهم رقابتهم الذاتية، تراه اليوم يقتدي بهذا الإعلام العالمي، فمن بين ملايين اللاجئين السوريين الذين فروا من براميل الأسد، لن تجد لاجئين يفصحون صراحة عن سبب لجوئهم الرئيسي، فترى اللاجئ يتحدث عن الحرب وأهوالها، والبحر والغرق واللجوء، وربما يوجّه الاتهامات للنظام، لكن دون أن يتلفظ باسم بشار الأسد، المتسبب الرئيسي بكل مآسيه. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.