اجتاحت أم محمد حالة من الذهول والألم، حين أخبرها الطبيب أن طفلها مصاب بالتوحد، بعد أن لاحظت اختلاف طباعه عن أقرانه وأشقائه. وقالت أم محمد: «من الصعب وصف معاناتي، فأنا أجد مشقة في التواصل معه، لا أعرف ماذا يريد؟ أحيانا تمر به ثورة غضب تستمر من ساعتين إلى ثلاث ساعات يصاحبها الضرب والعض والركل، تعبت نفسيتي من حاله ومن نظرة المجتمع من حولي»، مشيرة إلى أنها لا تكترث لذلك بل معاناتها الأخرى مع مراكز التعليم. وأضافت: «المراكز المخصصة لتعليم الأطفال التوحديين، هي الأقسى علي وعلى من هم مثل ولدي، ففي عام واحد أنفقت سبعة وعشرين ألفا وستمائة ريال ولم ألحظ أي تحسن، لأن حالة ولدي شديدة، أما غيره من الأطفال ذوي المستويات الأقل حدة في هذا المرض فتكلفتهم اثنا عشر ألف ريال في العام». وبينت أن معاناتها لم تقف عند حالة ابنها، بل حتى أهلها وهم أقرب الناس لها، قاطعوها، ولم تجد منهم الترحيب، خوفا على أولادهم من عدوى التوحد وفق اعتقادهم، موضحة أنها لم تخرج من منزلها منذ أربع سنوات للزيارات والمناسبات خوفا على مشاعر ولدها. وألمحت إلى أنها زارت راقي فقرأ عليه ونصحها من تغيير اسمه من كايد إلى محمد لأن كايد من اسماء الجن كما ردد الراقي. وتابعت أم محمد: «بذلت كل ما أستطيع من مال وجهد عسى أن أصل لحل وعلاج لولدي، لكن جميع المراكز الخاصة بمثل حالة ولدي ترفض الاستمرار في تعليمه بحجة أنه شديد التوحد وعجزوا عن السيطرة عليه والتمكن من سلوكه وفي كل مرة ترفق معه تقارير تشير إلى تدني مستواه و بأنه مزعج وعبارات أخرى تحبطني جدا»، مشيرة إلى أنها تحاول أن تدرب ولدها بنفسها عن طريق الألعاب الخاصة لمثل حالته وتحرص على توفير الوجبات والعلاجات والتي تكلفها قرابة الألفي ريال شهريا وهي أكلات خالية من الغلوتين والكازين، أي أكلات خاصة بحالته، عضوية وحمية غذائية. وأشارت أم محمد إلى أنها معلمة وما فاقم معاناتها عدم تفهم وزارة التربية والتعليم لحالتها مع ابنها، مطالبة بمراعاة ظروف بعض الأمهات وخاصة أمهات التوحديين والسماح لهن بالخروج قبل موعد الانصراف الأساسي لتستطيع رعاية طفلها والاهتمام به. بينما، تشكو أم مهياف من سوء تعامل المركز الذي تتلقى فيها طفلتها (12عاما) العلاج، مشيرة إلى أن المراكز يحرص على المادة أكثر من تحسن حالة الطفلة والتي تردد عليه منذ أشهر عدة ولم تلمس أي تقدم في حالتها. وأوضحت أن المركز الذي تتردد عليه ابنتها ثلاثة أيام في الأسبوع ولمدة ساعتين يتقاضى منهم 1500 ريال شهريا، مطالبة بتأسيس مراكز مكاسبها خيرية لا مادية وتراعي جهل الأم أو نفسيتها من حيث الأسعار المرتفعة للمراكز والأغذية والعلاجات. وتمنت مراعاة حال الأسر ذات الدخل المحدود أو التي تسكن في مساكن ضيقة بتدخل وزارة الشؤون الاجتماعية بتوفير المساكن المناسبة والصحية لأسر ذوي الاحتياجات الخاصة، فالبيت الذي نسكنه صغير جدا ولدي إخوة لمهياف كبار وتحتاج لغرفة خاصة بها لأضمن أن لا يراها أحد في بعض السلوكيات التي لا يصح أن يراها الشباب وأحيانا أضطر إلى إدخالها إلى الحمام من أجل تبديل ملابسها لعدم وجود غرفة خالية. «أم إياد» كانت تجهل أن هناك مرضا اسمه التوحد حين لاحظت أن طفلها «إياد» يختلف في طبيعته عن بقية الأطفال العاديين فظلت تراجع إحدى عيادات التخاطب لمدة سبعة أشهر دون أن ترى أي تحسن فراجعت إحدى الطبيبات فشخصت حالة ولدها بأنه «توحد» بل حتى تتأكد قامت بإرسال التشخيص إلى أمريكا ليصلها الرد بأنه توحدي. قامت أم إياد بإدخاله لأحد مراكز التوحد في مكة ولكنه كان سيئا في التعليم حسب قولها فما كان منها إلا أن نقلته لأحد مراكز التوحد في جدة واستمر فيه ست سنوات ولاحظت تحسنا واضحا في بعض السلوكيات والممارسات الأساسية كما لمست «أم إياد» تعاونا شديدا من المعلمات للأسر وتوجيههم للتعامل السليم مع الأطفال التوحديين ولكنني فوجئت في يوم بقرار الإدارة بأن ابنها متعب ولن يتمكنوا من مواصلة تعليمه وأمروها بنقله وإخراجه من المركز فنقلته مباشرة إلى الأكاديمية الأردنية للتوحد في مدة ثلاثة أشهر. استمر إياد حتى اليوم في الأردن وله قرابة الثماني سنوات يزور أسرته في مكة صيفا ولمدة ثلاثة أشهر وشتاء لمدة شهرين. تقول أم إياد لم أكن أتوقع بأن حال ابني سيكون بهذا التحسن والانضباط بعد سنوات من المعاناة. مع التجارب والمحاولات من أم إياد في التعامل مع ولدها والاهتمام به ومحاولة تعليمه أصبحت الآن تملك خبرة في التعامل مع التوحديين حيث تتلقى الاتصالات من أمهات توحديين يستشيرونها في بعض الأمور الخاصة بهم وكيفية التعامل معهم لذلك تعتزم أم إياد إلى فتح حسابات في مواقع التواصل الاجتماعي خاصة لتكون على مقربة من الكثير من أسر التوحديين ممن يبحثون عن من يواسيهم ويخفف من مصابهم لتجنبهم معاناتها السابقة في البحث عن من يواسيها حين أصيب ابنها بهذا المرض الغامض. وطالب العديد من أمهات وآباء الأطفال التوحديين بإنشاء مراكز مؤهلة إنسانيا وليست تجارية تستغل حاجتهم وتصطاد في مصيبتهم وزيادة الإعانات السنوية مع نمو الطفل لازدياد الحاجة واستقدام متخصصين ذوي خبرة وتجربة في التعامل معهم وعمل زيارات دورية داخل البيوت لمتابعة الحالات وتقديم بعض التوجيهات من خلال الاجتماع بأفراد الأسرة وتوفير المكملات الغذائية وتسهيل الحصول عليها وخفض أسعارها وإنشاء حديقة ألعاب مغلقة خاصة بهم بوجود حراس أمن مؤهلين للتعامل معهم. بدوره، عرف الخبير الفني والدولي للاحتياجات الخاصة والعلاج الأسرى عيد البجرمي التوحد بأنه اضطراب من اضطرابات النمو (اضطراب نمائي) وقد يكون مرتبطا بإعاقة ذهنية وخاصة الحالات الحادة وقد يكون لطفل أكثر ذكاء، وعادة ما يخطئ أخصائي الاحتياجات خاصة في وضع درجة ذكاء للطفل التوحدي. فهناك من لديهم قدرات عقلية عليا تفوق الآخرين كما أن نسبة انتشاره في الذكور أكثر من الإناث ولكن في الإناث أكثر حدة وشدة وعادة ما تكون الذاكرة السمعية أفضل وعادة ما يكون الذاكرة الأدائية أفضل، فهناك من يحفظ القرآن كاملا أو اللحن أو الإيقاع للأغاني أو يقوم بتفكيك جهاز كمبيوتر وإصلاحه وعادة ما يكون الطفل طبيعيا مائة بالمائة إلى عام أو اثنين ثم يصمت مرة واحدة وهو فقدان الآخر الذي لم يتكون لديه وتكون طرق علاجه بتكوين الآخر لديه. وتطرق البجرمي إلى أسباب التوحد بقوله إن البحوث العلمية التى أجريت حول التوحد لم تصل إلى نتيجة قطعية حول السبب المباشر للتوحد، رغم أن أكثر البحوث تشير إلى وجود عامل جيني ذي تأثير مباشر في الإصابة بهذا الاضطراب، حيث تزداد نسبة الإصابة بين التوائم المطابقين (من بيضة واحدة) أكثر من التوائم الآخرين (من بيضتين مختلفين). وتشير هدى الحيدر أخصائية توحد واضطرابات سلوكية وعضو مجلس إدارة جمعية أسر التوحد الخيرية إلى أنه لا توجد مؤثرات مبكرة تنذر بإصابة الطفل بالتوحد يجب حيال حدوثها الحذر واتخاذ اللازم ولكن هناك علامات ودلائل تشير إلى إصابة الطفل بالتوحد، فمنذ الشهور الأولى لا يخفى على الأم ومن ينوبها في تربية الطفل ملاحظة بعض السلوكيات التي تدل على احتمالية حدوث التوحد كعدم القدرة على التواصل البصري وغير البصري وضعف تكوين صداقات وعلاقات اجتماعية وعدم الرغبة في حضن الأبوين والتقرب لهما وصراخ أو ضحك غير مبرر ونوم متقطع والحرص على الروتينية في بعض الصفات. كما أشارت الحيدر إلى أن للتوحد درجات ومستويات مختلفة تتدرج من السمات إلى البسيط فالمتوسط فالشديد الكلاسيكي ،وبطبيعة الحال كلما كان التوحد ذا درجة بسيطة أمكن التغلب على السلوكيات وكلما كان التدخل مبكرا سهل بإذن الله على المختصين والأسرة سهولة العلاج. وشددت الحيدر على الاهتمام بالدمج في قولها «الدمج ثم الدمج ثم الدمج فلن نزيد العزلة عزلة إضافية بل يجب أن تكون المدرسة ملك للجميع وتكاتف الجهود بين البيت والمدرسة لتطبيق الخطط والبرامج بذلك. وانتقدت الحيدر الذين يتعاملون مع الطفل التوحدي بأنه طفل عنيد وعصبي ويمارسون معه العنف والشدة، موضحة أن التوحدي طبيعي بالفعل ولكن لأنه يعاني من صعوبة التواصل مع من حوله وفهم العالم المحيط به يصعب عليه فهم ما يدور حوله وفهم المحيطين به لسلوكياته، لذلك أنصح الجميع آباء أمهات و إخوانا مختصين ومجتمعا بأن يفهموا السلوك المدخلي لأبنائهم ذوي التوحد ويعرفوا كيفية التعامل معهم. وذكرت الأخصائية النفسية ياسمين عبدالغفار الميمني في مركز رسالة أمل للرعاية النهارية وتنمية المهارات عن الآثار النفسية والاجتماعية لاضطراب التوحد أن أسرة الطفل المصاب باضطراب التوحد تتعرض لضغوط نفسية منذ إعلامهم بأن ابنهم طفل ذاتوي (توحدي)، موضحة أنه قد تظهر أعراض التوحد خلال السنوات الثلاث الأولى حيث يكون الطفل طبيعيا ومن ثم يصبح الطفل ضعيفا في تواصله الاجتماعي ويميل إلى الانطوائية ويصبح منغلقا على نفسه يلعب مع نفسه لا يندمج مع أسرته، يتأخر لغويا، يصبح الطفل ضعيفا في تواصله البصري، تصبح الأسرة وخاصة الأم في شك وحيرة من أمره وعندما تعلم بحالته وتشخيصه تتعرض للصدمة، ومشاعر الأسى والحزن، والإنكار أو الرفض، لا تحب أن تسمع بأن ابنها توحدي، تبكي كلما سمعت من المختصين النفسيين، وقد يمتد الأمر إلى الاكتئاب والإحساس بالذنب ولوم الذات، والقلق والخوف والضيق والاستياء الشديد وخيبة الأمل بأن ابنهم لن يتمكن من التواصل الاجتماعي والمشاركة في الأنشطة العادية. وأفادت الميمني أن هناك من الأمهات لا يخجلن من أبنائهن، فهي تكون متفهمة أكثر ومتقبلة لحالة ابنها راضية بقضاء لله وقدره وتكون علاقة الوالدين بابنهما علاقة جيدة، حيث يقدمان له كل ما يستطيعان تقديمه من خدمات وتسجيله في أحسن المراكز مهما كانت التكلفة المادية، ويلاحظ التحسن في حالة الطفل بعد تأهليه بالطريقة الصحيحة ويصبح أكثر تفاعلا وأكثر تواصلا مع أسرته ومع أقرانه في نفس عمره وتخف بعض الأعراض لديه. وهناك من الأمهات من لا يتقبلن ابنهن و يعانين من مشاعر الخجل عند إخراج الطفل للأماكن العامة أو عند الزيارات العائلية حيث يقوم الطفل التوحدي بسلوكيات غير مرغوبة. بينما، أفاد خبير التوحد الدكتور خالد عياش أن التعامل الأفضل والأسلوب الأنسب للتعامل مع التوحديين، يجب أن يشتمل على أمور عدة: منها التقييم الشامل لقدرات ومهارات الطفل ومعرفة عناصر القوة والضعف لديه ومعرفة أي المهارات لديه تدهور حاد، وبالتالي فإن الأخصائي الناجح هو الذي يبدأ في دراسة الحالة وبتقديم مقاييس الأزمة والتشخيص المناسب، ومراقبة الطفل وملاحظته في البيت أو المركز لمدة لا تقل عن 20 يوما لمعرفة كل شيء عن الطفل، وووضع البرنامج والخطة الفردية والتي تبدأ من تنمية المهارات الاستقلالية ثم التواصلية( تواصل بصري) ثم تفاعل اجتماعي. ورأى عياش أن أفضل البرامج هي التي يتعاون فيها المركز مع الأسرة، ولو أخدنا على سبيل المثال لا الحصر برنامج «لوفاس»، فإن هذا البرنامج من أفضل البرامج وحتى يكون كذلك لابد من وضع البرنامج للطفل من قبل المركز ومن ثم تدريب الأسرة على كيفية تطبيق البرنامج في البيت حتى يصبح الطفل في عملية تعليمية تأهيلية شاملة في كل لحظات الحياة.