صحيح أن الزمن تغير وأن ريو دي جانيرو ليست بالمكان الذي كانت عليه قبل 104 أعوام، لكنّ الثابت الوحيد منذ ذلك الحين هو الصرخات الحماسية للجمهور الشغوف الذي يتابع دربي المدينة بين فلامنغو وفلوميننزي. الخميس وبعد أكثر من قرن و300 مواجهة بين الفريقين، يجدّد الجاران اللدودان الموعد في حلقة جديدة من أكثر "مسلسل رومنسي" في مسيرة الكرة البرازيلية. وما يزيد من حماوة المواجهة أن فلامنغو يحتلّ المركز الثاني بفارق ثلاث نقاط فقط عن بالميراس المتصدر بعد 29 مرحلة من أصل 38، فيما يحتلّ فلوميننزي المركز الخامس لكن بفارق كبير يبلغ 14 نقطة عن الصدارة، إلا أنه يقاتل من أجل الحصول على مركز مؤهل إلى مسابقة كأس ليبرتادوريس الموسم المقبل. ولن تقام هذه الموقعة على مسرحها التقليدي في ملعب "ماراكانا" الأسطوري، بل نقلت إلى ملعب فولتا ريدوندا الذي يبعد حوالي ساعتين عن ريو بسبب أعمال الصيانة التي يشهدها "ماراكانا" بعد استضافته لأولمبياد 2016. لكن ما يشغل بال الجمهور ليس مكان المباراة وحسب، بل العداوة التاريخية بين هذين الجارين. وليس هناك من عبارة تصف الصراع الكروي بين ناديي مدينة ريو وتجسده في تاريخ الناديين بشكل أكثر وضوحاً من جملة الكاتب الرياضي والمؤلف الدرامي نيلسون رودريغيز عندما قال إن "شرارة العداوة بين هذين الناديين قد انطلقت حتى قبل أن يلتقيا وجهاً لوجه". وتلخّص هذه الجملة جوهر ما اصطلح على تسميته في القاموس الرياضي لمدينة ريو دي جانيرو والبرازيل عموماً باسم "دربي الحشود الضخمة". ويعود أصل الصراع الأزلي بين أكبر ناديين في مدينة ريو إلى تاريخ يسبق بسنوات أول لقاء بينهما وبالضبط إلى يوم السابع من تموز (يوليو) 1912. تم تأسيس نادي "كلوب دي ريغاتاس دو فلامنغو" عام 1895 وكانت رياضة التجذيف تعتبر النشاط الأساسي للمنتسبين إليه في سنواته الأولى، ثم استمر الحال كذلك حتى عام 1911 عندما تم إنشاء فريق لكرة القدم تابع للنادي. وبدأت العداوة بين الطرفين على خلفية أن مؤسسي فلامنغو كانوا مجموعة مكوّنة من تسعة لاعبين انشقوا عن ناد عريق آخر هو فلوميننزي الذي كان بطل ولاية ريو دي جانيرو في ذلك العام. وبهذا ولدت الخصومة من رحم التأسيس وقبل أي لقاء بين الفريقين. ورغم انشقاق هؤلاء اللاعبين التسعة عن صفوف فلوميننزي، استطاع الأخير التغلّب على غريمه الجديد في المواجهة الأولى بينهما (3-2) بعد أن سجّل هدف الفوز في الدقيقة 77 بحضور 800 متفرج وهو عدد يعتبر كبيراً نسبياً بمقاييس ذلك العصر. ومع مرور الأيام، ازداد عدد المتفرجين في دربي الأخوة الأعداء، حتى بات يستقطب في عصرنا الحالي عدداً هائلاً من المشجعين الذين تغصّ بهم مدرجات ملعب "ماراكانا". يطلق سكان ريو على هذه المواجهة اسم "شارموز"، أي المباراة الساحرة التي تحدث عنها ريناتو تيرا، مخرج أحد الأفلام الوثائقية المتعلقة بهذا الدربي، قائلاً: "فلا-فلو أصبحت مرادفة لكلمة خصومة، لكن هذه الخصومة لا مثيل لها. إنها لا تشبه خصومة الحروب. فلامنغو ولد من رحم فلوميننزي وبالتالي يمكن اعتبارها إلى حدّ ما خصومة بين أخوين يعرفان بعضمها تمام المعرفة". بدأت تسمية المواجهة بين الناديين بدربي "فلا-فلو" أواسط عشرينات القرن الماضي على لسان الصحافي الرياضي ماريو فيليو الذي يحظى بشعبية كبيرة في البرازيل لدرجة أنه عند وفاته في منتصف الستينات تمت إعادة تسمية ملعب ماراكانا باسم "ستاد الصحافي ماريو فيليو". وخرج الإعلامي الشهير بهذه التسمية عندما تم الإعلان عن تشكيلة الفريق الموحد لولاية ريو دي جانيرو المشارك في بطولة فرق الولايات البرازيلية عام 1925، حيث كان مكوناً بشكل كامل من لاعبي ناديي فلامنغو وفلوميننزي. ولم يخيّب الفريق آمال فيليو وجماهير ريو العريضة بفوزه في البطولة، ليصبح اسم دربي "فلا-فلو" جزءاً لا يتجزّأ من القاموس الكروي لبلاد السامبا. سيبقى يوم 15 كانون الأول (ديسمبر) 1963 عالقاً في الأذهان لأنه احتشد 177 ألف مشجّع في ملعب ماراكانا، أي ضعف عدد الجمهور الذي يستوعبه الملعب في الوقت الحالي، من أجل متابعة نهائي بطولة ولاية ريو. وتتحدّث الإحصاءات غير الرسمية أن الملعب احتضن في ذلك النهائي الذي فاز به فلامنغو، 193 ألف مشجّع ومن بينهم ابن العاشرة ارثور انتونيس كويمبرا، المعروف بزيكو، والذي كبر ليصبح لاحقاً أحد أفضل اللاعبين الذين عرفتهم الكرة البرازيلية ومعبود جماهير فلامنغو. وزيكو الذي قاد فلامنغو للقبه القاري الوحيد وتوجه بطلاً لمسابقة كوبا ليبرتادوريس عام 1981، ليس الشخصية الكروية الوحيدة التي اختبرت اللعب في هذا الدربي الكلاسيكي، فهناك أسماء كبيرة أخرى لا يزال يتردّد صداها في أجواء ملعب ماراكانا بدءاً بليونيداس دا سيلفا وجونيور (فلامنغو) ومروراً بالأسطورتين تيلي سانتانا وريفيلينو (فلوميننزي). كما أن بعض الأسماء اللامعة في تاريخ الكرة البرازيلية لعبت مع الناديين، وأبرزها في العصر الحديث رونالدينيو. أمّا في الحقبة التي سبقت ذلك، فكان هناك ريناتو غاوتشو الذي كان معبود جماهير فلامنغو في الثمانينات وأوائل التسعينات، لكّنه كان يرتدي قميص فلوميننزي عندما سجّل أحد أكثر الأهداف شهرة في تاريخ المواجهات بين قطبي ريو دي جانيرو. وكان هدف غاوتشو في المباراة النهائية لبطولة ولاية ريو عام 1995 حين كان فلامنغو قاب قوسين أو أدنى من إحراز اللّقب بعد أن قلب تخلفه بهدفين إلى تعادل، لكنّ نجوم فلومننزي لم يستسلموا وحافظوا على رباطة جأشهم حتى أرسل ايلتون تمريرة عرضية إلى منطقة الجزاء أكملها ريناتو غاوتشو ببطنه داخل المرمى لتصبح النتيجة 3-2 لمصلحة "فلو" وتحول معها هذا الهدف إلى ذكرى نقشت في أذهان مشجّعي فلوميننزي إلى الأبد. ويلخّص نيلسون رودريغيز مواجهة "فلا-فلو" بـ"مباراة الأزمان كافة. لم تكن مباراة القرن. القرن يعتبر شيئاً ضئيلاً مقارنة مع العطش (إلى الفوز) المترافق مع مواجهة فلا-فلو".