على الرغم مما يكنّه المسلمون من تعظيم وتبجيل لسيدهم وحبيبهم ونبيهم محمد بن عبد الله عليه صلوات الله وسلامه، إلا أنهم لم يكذبوا على أحد مثلما كذبوا عليه ونسبوه إليه، وكأنهم لم يسمعوا به وهو يقول: «من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار»! وبعد أن كان الرعيل الأول من المسلمين يتشددون في كتابة الأحاديث، ويتحرّجون من روايتها، إما مخافة اختلاط كلام رسولهم بكلام ربهم، وإما مخافة استسهال الكذب والوضع على لسان رسولهم، فإن الأحاديث من بعدهم تفجّرت كنهر جارف، حتى بلغت في زمن أحمد بن حنبل ألف ألف حديث بعد أن كانت في زمن أبي بكر الصديق – رضي الله عنه وأرضاه – لا تربو على خمسمائة حديث! إن أول من كذب على رسول الله هم أهل السياسة وأصحاب الرياسة، وهذا ليس عليهم بغريب. فإن كانت لهم الصولة جاؤوا بأحاديث تأمر الناس بالسمع والطاعة، وإن كانت الصولة عليهم جاؤوا بأحاديث تأمر الناس بالخروج على الجور والظلم والطغيان! ومن الأمثلة على ذلك أن بني العباس حين دان لهم الأمر وانبسط لهم الملك نسبوا إلى رسول الله أحاديثاً عجيبة تفيد مصلحتهم وتثبت ملكهم. فمن الأمثلة على ذلك قولهم، وعلى لسان رسول الله: «الخلافة في ولد عمي وصنو أبي حتى يسلموها إلى المسيح». ولو صّحَ هذا الحديث لكنا إلى اليوم نعيش في كنف أمير المؤمنين وخليفة المسلمين ببغداد وتحت ظلاله الوارفة! ومثلما كذب أهل السياسة، فقد كذب أهل المذاهب على رسولهم، من شدة افتتانهم بأئمتهم وتعصبهم على بعضهم البعض. فالأحناف جاؤوا بحديث عن نبي الله في صاحبهم أبي حنيفة النعمان يقول فيه: «يكون في أمتي رجل يقال له أبو حنيفة النعمان هو سراج أمتي». وقالت المالكية في إمامها مالك بن أنس إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يوشك أن يُضرب الناس أكباد الإبل في طلب العلم فلا يجدون عالماً أعلم من عالم المدينة (يقصد بذلك مالك)». وامتدحت الحنابلة شيخها ابن حنبل بحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاء فيه: «أن سائلاً رأى رسول الله في منامه فسأله: «من تركت لنا في عصرنا من أمتك نقتدي به يا رسول الله؟ فقال: عليك بابن حنبل»! وقد تجد من الناس من يأتيك بأحاديث من عنده، يريد بها تهذيب النفس، وترويضها، وتوطينها على الانشغال بالآخرة عوضاً عن الدنيا. وفي هذا ينقل النووي في شرح مسلم عن الأمير خالد بن يزيد الأموي أنه قال: «سمعت محمد بن سعيد الدمشقي يقول: إذا كان كلاماً حسناً لم أر بأساً أن أجعل له إسناداً»! وعلى ذكر السند، فلقد أولى علماء الأحاديث السند، أو سلسلة الرواة، عناية تزيد على عنايتهم بمتون الأحاديث، فكانت النتيجة أن فشت بين المسلمين أحاديث لا تتفق مع روح القرآن المجيد، ولا مع سلوك الرسول الكريم، ولا مع براهين العقل السليم. أما أكثر من ابتدع الأحاديث فهم جماعة يقال لهم القُصَّاص، أو من نطلق عليهم اليوم الدعاة أو الوُعَاظ. وأول ظهور للقُصَّاص كان في خلافة عمر بن الخطاب. ففي أيامه أقبل تميم الداري والحارث بن معاوية الكندي يستأذنانه في القصص، فأبى أن يأذن لهما وحذّرهما. ثم اشترط على تميم بعد إلحاحه في الاستئذان أن يتكلم في أمور معينة وفي وقت محدود. وما كان هذا التصرف بمستغرب من الفاروق الذي عُرف بتشدده في رواية الأحاديث وكتابتها. ولدينا من الروايات ما يدل على نفور الصحابة من القصص، وتأففهم من القُصَّاص، لعلمهم بأن هؤلاء القوم إنما يتغيون الشهرة والمال والجاه. فمما يروى عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – أنه رأى قاصّاً يقصّ في المسجد الحرام وكان معه ابن له، فقال له ابنه: أي شيء يقوله هذا؟ فقال: يقول اعرفوني. اعرفوني! والقُصَّاص، كما جاء في كتاب «القُصَّاص والمذكرين» لابن الجوزي: «... لا يُذمون من حيث الاسم لأن الله عز وجل قال: «نحن نقص عليك أحسن القصص»... وإنما ذُمَ القُصَّاص لأن الغالب منهم الاتساع بذكر القصص دون ذكر العلم المفيد، ثم غالبهم يخلط فيما يورده. وربما اعتمد على ما أكثره محال». وإحدى آفات القُصَّاص وأشرّها كما يقول ابن الجوزي: «فمن ذلك أن قوماً منهم كانوا يضعون أحاديث الترغيب والترهيب، ولبّسَ عليهم إبليس بأننا نقصد حث الناس على الخير، وكفهم عن الشر وهذا افتئات منهم على الشريعة...». لقد علم القُصَّاص بحب الناس لنبيهم، وبشغفهم بالعجيب من الحكايات، فاخترعوا كرامات ومعجزات ونسبوها لرسول الله، ومن ثم أخذت تلك الأكاذيب تشق طريقها إلى بطون كتب التراث، ومن بعدها صّبت في أذهان الناس واستقرّت بها. ولو كان الله قد أيّدَ نبيه بمعجزات مادية لما طالبه صناديد قريش بآية من السماء حتى يتبعوه ويؤمنوا به. ولهذا يقول الله عز وجل في كتابه الكريم: «وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً، أو تكون لك جنة من نخيل وعنب، فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً، أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً، أو تأتي باللّه والملائكة قبيلاً، أو يكون لك بيت من زخرف، أو ترقى في السماء. ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه. قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً» (سورة الإسراء: 90 – 93). هناك خصلتان بغيضتان اجتمعتا في أهل القصّ: الجهل والكذب. فالقاص لا تجد عنده ما يكفي من العلم بالقرآن وناسخه ومنسوخه، والمعرفة بالحديث وتمييز صحيحه من سقيمه، والدراية بالتاريخ وسير السلف، والإلمام بالفقه وعلوم اللغة. وهو مع جهله هذا يستحي أن يقول لسائليه: أنا لا أعلم. فتراه يكذب كذباً فاحشاً تكاد تتفطر لهوله السماوات. يذكر ابن عبد ربه الأندلسي في كتابه «العقد الفريد» أن أحد القُصَّاص، واسمه أبو دحية، قال يوماً: «كان اسم الذئب الذي أكل يوسف هملاج. فقالوا: إن يوسف لم يأكله الذئب. فقال: فهذا اسم الذئب الذي لم يأكل يوسف»! ولولا جهل العوام، وشغفهم بالعجيب من الأحاديث، وتصديقهم للغريب من الأساطير، لما استفحل شأن القُصَّاص ولما اجترأوا على الكذب الأبلق. ينقل أبو فرج الأصفهاني في كتابه «الأغاني» عن عثمان الوراق أنه قال: رأيت العتابي (شاعر عباسي) يأكل خبزاً على الطريق بباب الشام، فقلت له: ويحك، أما تستحي؟ فقال لي: أرأيت لو كنا في دار فيها بقر، كنت تستحي وتحتشم أن تأكل وهي تراك؟ فقال: لا. قال: فاصبر حتى أعلمك أنهم بقر (يعني العوام). فقام فوعظ وقص ودعا، حتى كثر الزحام عليه، ثم قال لهم: روى لنا غير واحد، أنه من بلغ لسانه أرنبة أنفه لم يدخل النار. فما بقي واحد إلا وأخرج لسانه يومئ به نحو أرنبة أنفه، ويقدره حتى يبلغها أم لا. فلما تفرقوا، قال لي العتابي: ألم أخبرك أنهم بقر؟ وهذه القصة لا شك عندي أنها تتكرر في كل وقت وأوان، ما دام أن هناك نوعين من البشر: كذّابون يتاجرون بدين الله، ومُغفّلون يظنون أنهم سيدخلون الجنة إذا ما لمسوا أنوفهم بألسنتهم! إن كنت تحسب أن أولئك القُصَّاص قد انقرضوا فإن الصواب قد جانبك؛ فأنا ما زلت أراهم يعيثون في مجتمعاتنا، ويعبثون بعقول عوامها. وإن كان هناك من فارق بين قُصَّاص الأمس واليوم، فالفرق يكاد يتلخص في أمرين اثنين: كان بعض الصحابة إذا وجدوا هؤلاء القُصَّاص في المساجد استعانوا بالشرطة كي يطردوهم، وربما وقف المحتسب على أبواب الجوامع لمنعهم من دخولها وإفساد عقول الرعية. أما اليوم فيُخطب ودهم، ويُدفع لهم، وتُثنى عندهم الركب! وكان القُصَّاص في ماضيهم لا يخلطون خرافاتهم بقصصهم من أجل تأليب العوام على ملوكهم والزّج بهم في التهلكة تحت مسمى الجهاد. وأما اليوم فيحلف أحدهم أن ملائكة على خيول بيضاء تقاتل طاغية دمشق وشبيحته، فينخدع بكذبه السُذّج فينفرون إلى حتفهم، بينما ينفر هو إلى «الهايد بارك»!