مدينة بوفيه الواقعة في شمال فرنسا، تعكس تناقضات الاتحاد الأوروبي، في أعقاب التحول الزلزالي الذي أحدثه خروج بريطانيا من التكتل. وتشتهر بوفيه، التي تعد مركزاً لشركة «ريانآير» للطيران الاقتصادي، باعتبارها مركزاً للسفر السهل والرخيص الذي تكفله أوروبا المفتوحة دون حدود. ولكن غالبية الناس الذين يعيشون هنا، وهم من البيض العجائز من الطبقة الوسطى، يفضلون أن تحذو فرنسا حذو بريطانيا في مسعى الخروج من التكتل الذي يضم 28 دولة. والسكان هنا فعلوا ذلك بمعنى ما، حين صوت ما يزيد على 60 في المئة منهم عام 2005 بالرفض في استفتاء بشأن تصديق فرنسا على الدستور الأوروبي. وبعض الناس الذين عارضوا التكتل في هذا التصويت المبكر، مثل جان كلود جازون البالغ من العمر 73 وهو ضابط شرطة متقاعد، يؤكدون أنهم سيرفضون ذات الفكرة للمرة الثانية بالتأكيد. وتحسر «جازون» على فرنسا التي كانت عظيمة في عصر الرئيس ديجول، بحسب اعتقاده، ولكنه يرى أن البلاد في أسوأ حالاتها الآن. وموافقة بريطانيا في الاستفتاء على مغادرة الاتحاد الأوروبي ربما أصاب العالم بصدمة، ولكن الريبة في التكتل الأوروبي ليست أيضاً حكراً على البريطانيين. بل الواقع أن عدد الفرنسيين الذين يتبنون مشاعر سلبية تجاه التكتل أكبر من نظرائهم في بريطانيا، وفقاً لنتائج استطلاع رأي شامل أجراه مركز «بيو» البحثي في صيف العام الجاري. ويستبعد محللون خروج فرنسا من التكتل، ولكن مغادرة بريطانيا للتكتل جعلت المشاعر المعادية للاتحاد الأوروبي أمراً عادياً عبر القارة، إلى درجة أن الخروج من التكتل لم يعد فكرة هامشية. وهذا أوضح ما يكون في فرنسا في أفق إجراء انتخابات رئاسية. والمشاعر المعادية للاتحاد الأوروبي، التي تبناها في الأساس أشخاص مثل مارين لوبن، زعيمة حزب الجبهة الوطنية اليميني الفرنسي المتطرف، مطروحة في الجدل العام هنا، إلى درجة أن السياسيين من التيار الرئيسي حتى من اليسار الشهير بتأييده لأوروبا يخوضون حملاتهم السياسية مباشرة على أساس مناهضة بروكسل وبيروقراطيتها المثيرة للجدل. وهناك اتفاق في الآراء واسع النطاق في اليمين واليسار على الحاجة الملحة «لإعادة تعريف جوهر المشروع الأوروبي»، بحسب قول «أرنو مونتبور»، وهو سياسي اشتراكي متطلع لمنصب الرئيس. ودأبت لوبن على إعلان الفكرة نفسها تقريباً، وإن يكن بلهجة أشد منذ سنوات. ويرى أنطوان فوشيه، أستاذ العلوم السياسية في جامعة السربون في باريس، أن هذا التلاقي الغريب يمثل خيبة أمل مشتركة وسط السياسيين الفرنسيين من أن المشروع الأوروبي لم يعد يهيمن عليه النفوذ الفرنسي كما كان الحال منذ عقود. وأشار إلى سياسات برامج الرعاية الاجتماعية التي أملتها فرنسا في بروكسل، قبل أن يبدأ التكتل في تبني التوجه نحو حرية الأسواق في عام 1990. وقال فوشيه: «الآن هناك شعور بمحدودية قدرة فرنسا على تغيير مسار الاتحاد الأوروبي فعلياً... والاتحاد الأوروبي يعتبر شيئاً يجري التحكم فيه بدرجة تقل أو تزيد في برلين وبروكسل». ولكن الاستياء في بوفيه من بروكسل يتجاوز السؤال التجريدي المتعلق بالنفوذ السياسي الفرنسي. والمشاعر المعادية للاتحاد الأوروبي شخصية، ويحركها التحرر من وهْم أوروبي لم تستفد منه إلا قلة محظوظة من الناس. والغالبية في بوفيه لم يعرفوا قط أوروبا التي تضفي عليها الصفوة الحضرية، وخاصة الشباب عادة، طابعاً رومانسياً لتعليم يمكن قبوله عبر الحدود ومستقبل مهني يتنقل عبر مدن التكتل. ولكن يجري تذكيرهم كل يوم بأوروبا تلك من خلال المطار القريب الذي يقوم بدور إحدى العواصم غير الرسمية للتكتل، ويمر عبره أكثر من أربعة ملايين شخص في العام. والسكان العاديون في هذا المجتمع المؤيد للخروج الفرنسي من التكتل الأوروبي يسارعون بالإشارة إلى أنهم لا يسافرون تقريباً على متن طائرات «ريانآير» إلى برشلونة أو ستوكهولم، سواء للعمل أو للترفيه. وقد بدأت جاكلين جوجيه، البالغة من العمر 70 عاماً، تضحك حين سئلت عما إذا كانت قد عملت أو عاشت في مدينة أوروبية أخرى مجيبة بما يشبه النفي. ويرى دومنيك مواسي، المشارك في تأسيس المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية ومقره باريس، أن هذا الشعور يمثل عنصراً نفسياً حاسماً في معادلة سياسية مشحونة بالفعل. وأوضح قائلاً: «كلما شعر المرء بسوء حالته كان أكثر ميلًا لانتقاد التكتل وهذا واضح للغاية. إنها مشكلة كبيرة لأن هذا هو الوقت الذي يجب على المرشحين أن يصفوا فيه أوروبا باعتبارها جزءاً من الحل، ولكنهم لا يستطيعون ذلك ،لأن معظم الفرنسيين يعتبرون أوروبا جزءاً من المشكلة». * صحفي مقيم في باريس ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»