رغم الضوضاء السياسية المتعاظمة التي تطفو على سطح المشهد اللبناني ويومياته حيال إمكان التوصل الى تسويةٍ من «حواضر البيت» تتيح الإفراج عن الانتخابات الرئاسية المعلَّقة منذ نحو 28 شهراً، في الجلسة رقم 46 المقرَّرة للبرلمان في 31 الجاري، فإن كرةً من الشكوك ما زالت تتدحْرج حول الفرص المتاحة، في الداخل والخارج، لإحداث خرقٍ من هذا النوع الذي يشي وكأن لبنان، الذي شهد صراعاً مستميتاً على «لمَن القرار فيه» على مدى أكثر من عقد من الزمن، تحوّل بين ليلةٍ وضحاها «جزيرةً» منعزلة عن البراكين المتفجرة في المنطقة التي صحت على حروبٍ لم تعرفها منذ قرنٍ على الأقل. ومضى لبنان في الدوران حول «الأحجية الرئاسية» وممرّاتها المستحبّة او الاكراهية من دون ان يفصح «حزب الله»، المُمْسِك بخيوط اللعبة عن كلمة السرّ الفعلية، والتي في ضوئها يمكن فكّ أسْر الدولة بانتخاب رئيسٍ جديد، او ترْك لبنان معلَّقاً فوق فوهةٍ من الفراغ في انتظار مقايضاتِ «الضم والفرز» في المنطقة. فعلى قاعدة «يمكن ان يُنتخب رئيساً غداً ويُمكن الا ينتخب، أقلّه في المدى المنظور»، تدور المحركات السياسية في بيروت في اتجاهيْن: الأوّل ماذا عن الخارج (السعودية وإيران) الذي غالباً ما يَصنع الرئيس في لبنان؟ والثاني: ماذا عن مواقف الأطراف والأثمان وما شابه؟ وثمة اعتقاد في بيروت ان إيران، التي تترك لحليفها «حزب الله» تقدير الموقف في الشأن الرئاسي اللبناني، لا مصلحة لها في لحظةِ صراعها المتعاظم مع المملكة العربية السعودية إمرار تسويةٍ في بيروت تعيد زعيم «تيار المستقبل» الرئيس سعد الحريري، الحليف الرئيسي للسعودية، الى السلطة، بعدما جرى إقصاؤه بانقلاب سياسي - دستوري رعاه «حزب الله» في العام 2011، أطاح بحكومة الحريري، الذي غادر البلاد ولم يعد إلا أخيراً. وفي تقدير أوساط واسعة الاطلاع ان طهران غير مستعجلة للإفراج عن «الورقة اللبنانية» قبل حلول موسم «البيع والشراء» مع الولايات المتحدة، رغم ان إيران تعتبر ان لبنان خارج أيّ سلةِ مقايضاتٍ نظراً للمكانة التي يحتلها «حزب الله»، لكن وجوده «على الطاولة» من شأنه ان يعزّز الموقع التفاوضي لطهران، وتالياً من المستبعد حصول أيّ خرقٍ في بيروت قبل مجيء إدارة اميركية جديدة الى البيت الأبيض. وهذا يعني في رأي هذه الأوساط ان إيران ليست في وضعٍ يضطرها الى تَقاسُم السلطة في لبنان مع المملكة العربية السعودية من خلال التسوية التي يَعمل على الترويج لها الحريري والتي تقضي بالإتيان بزعيم «التيار الوطني الحر» العماد ميشال عون، الذي يتمّ التعامل معه على انه مرشح إيران و«حزب الله» رئيساً على ان يعود زعيم «المستقبل» الى رئاسة الحكومة، خصوصاً ان ثمة مَن يذكّر بـ «السطر» الذي نُقل عن الرئيس السوري بشار الأسد وردّده «حزب الله» يوم تبنى الحريري ترشيح حليفهما النائب سليمان فرنجية للرئاسة، وقال فيه: «الأسباب التي دفعتنا الى إخراج الحريري من الحكم لم تنتفِ بعد». ورغم ما يشاع عن حرَجٍ ينتاب «حزب الله» نتيجة «وعدٍ» كان قطعه أمينه العام السيد حسن نصرالله للعماد عون بدعمِ وصوله الى الرئاسة ويصعب النكوث به، فإن هذا الأمر ربما لن يكون حاسماً في ترجيح كفة انتخاب عون او عدمه وذلك نتيجة الحسابات الإقليمية وتعقيداتٍ داخلية، لعل أبرزها الموقف المتشدّد الذي يبديه حليف «حزب الله» رئيس البرلمان نبيه بري المناهِض لمجيء زعيم «التيار الحر» رئيساً، وهو ما كان أسرّ به بري لـ «حزب الله» يوم أحبط الحزب عملية انتخاب فرنجية. غير أن ثمة أوساطاً من الفريق المؤيّد لمجيء العماد عون في قوى «8 آذار»، تعتقد ان الأمور أقلّ تعقيداً في ضوء ثلاثة معطيات هي: • ان حساسية المعادلة السنية - الشيعية في لبنان جعلتْ من الصعب ان يأتي السنّة برئيسٍ للجمهورية او الشيعة كذلك، وتالياً فان أحدهما يبادر والآخر له حق «الفيتو»، وهو ما حصل مع مبادرة الحريري بترشيح فرنجية التي لم تكتمل فصولاً نتيجة اعتراض «حزب الله»، اما الآن فـ «حزب الله» بادر منذ البداية الى ترشيح عون وها هو الحريري يتّجه الى تأييده. • صحيح ان الحريري، الذي تحظى حركتُه الجديدة بنحو 99 في المئة من التغطية السعودية سيعود الى رئاسة الحكومة، لكن الأصحّ هو انه سيأتي على عربة مرشح «حزب الله»، اي العماد عون ولن يكون طليق اليد مع وجود عون رئيساً للجمهورية وبرّي رئيساً للبرلمان، إضافة الى ان زعيم «المستقبل» لم يعد شخصية صِدامية ومن مصلحة «8 آذار» التعاون معه، خصوصاً مع ظهور قيادات سنية أكثر تشدداً. • يدرك العماد عون ان من الصعب عبوره الى القصر الرئاسي من دون المرور بتفاهمات مع الرئيس بري تتناول المسائل الأساسية المرتبطة بالعهد المقبل، وتالياً فإن الواقعية تقتضي بذهاب الطرفين الى حوارٍ وتفاهُم يمكن ان يلعب «حزب الله» دور المسهّل لإنضاج نجاحهما، خصوصاً ان الحزب الذي يسلّم بإدارة بري للمسائل المرتبطة بالدولة لانخراطه في حروب المنطقة، هو صاحب مصلحة في انتزاع أكبر قدر من المكاسب في السلطة لمصلحة الشيعة، وفي إبقاء الإمرة الاستراتيجة بيده. وفي اعتقاد هذه الأوساط ان سلّة الشروط المسبَقة ليستْ برسم عون وحده إنما الحريري أيضاً، وهو ما يفسّر محاولة زعيم «المستقبل» الحدّ من الأثمان التي يُراد له دفْعها عبر تَجنُّبه الخوض في أيّ مفاوضات مع «حزب الله» وحصْر تفاهمه بالعماد عون، لاعتقاد الحريري ان «حزب الله» من مسؤولية زعيم «التيار الوطني الحر». وبيدو الحريري، الذي «يطبخ» خطواته في اتجاه إعلان تبنّيه لترشيح العماد عون وكانه يختار بين السيئ اي مرشح خصمه «حزب الله» وبين الاسوأ، اي المضي في فراغ مفتوح على فوضى قد تطيح باتفاق الطائف وتوازناته، وربما هو أقنع القيادة السعودية بـ «النصف الملآن» الذي يُظهِره اولاً شريكاً أساسياً في وصول عون الى الرئاسة (والذي من دون زعيم «المستقبل» لم يكن في الإمكان وصوله) ويضمن له ثانياً العودة الى رئاسة الحكومة. ورغم الضغوط الإعلامية والسياسية التي يتعرّض لها الحريري لـ «حرق المراحل» في دعمه ترشيح عون، فإن من الواضح ان زعيم «المستقبل» المتمهّل لن يُقْدِم على هذه الخطوة سريعاً لأمريْن، الاول يرتبط بتهيئة مزاج بيئته السياسية - الشعبية للحدّ من الخسائر التي تنجم عن دعم انتخاب زعيم «التيار الحر» الذي غالباً ما كان صدامياً مع هذه البيئة، والثاني وهو الأهمّ اتضاح موقف الثنائي الشيعي، أي الرئيس بري و«حزب الله» من انتخاب العماد عون. وحتى يحين الموعد غير الحاسم لانتخاب رئيس للجمهورية في الجلسة المقررة في 31 الشهر الجاري، سيكون من الصعب الجزم باتجاهات الريح في بيروت المصابة بوهج الحروب المفتوحة على امتداد خطوط الطول وخطوط العرض في المنطقة.