ثمانية عشر عاماً رقمٌ مميزٌ لدى العامَّة ولدى شبكاتِ التَّواصل أيضاً ولدى الكثير الكثير من القوانين والأنظمة الدولية، عمر النضج والتفتح والقدرة على اتخاذ أصعب القرارات، مع جدارة تحمُّل أشد المسؤوليات وأعقدها. هناك حيث المكان اللامطلق تجد الحدود مرسومة بين المسؤولية واللامسؤولية، بين فقدان الأهلية والرشد، وبين الطفولة والمواطنة! فئة جديدة وتصنيف مبتكر بعيد عن تصرفات الطيش والغفلة، قريب من الرزانة والرشد. بعيد عن مقاعد الدراسة، قريب من قاعات الجامعة. بعيد عن الواجبات المنزلية ووفرتها، قريب من مشاريع التخرج ومجالاتها. بعيد عن توجيهات الأهل ومواعظهم، قريب من تكاليف الزواج وواجباته. بعيد عن كل ذي يسر كان بالحسبان عسيراً حتى جاء الأعسرُ منه. بعيداً عن ما كل يرونه ويعتقدونه -لا أعرف ماذا أسميهم- ربما من هم في ذلك العمر. فأنا لا أعلمُ السَّبب ولا الغاية من تحديد ذاك الرقم أو وضع ذاك الفاصل بالتحديد لا غيره من الفواصل! كـلُّ ما أريد معرفته هو عمري الحقيقي في هذا اليوم، فلن أعدَّ فيه الأيام التي عشتها، ولا الشموع التي أطفأتها، ولا ساعات الخيبة التي أقمتها. ولكن سأعدُّ فيه اللحظات التي صنعتها والنفوسَ التي أصلحتها والأرواح التي سقيتها عساي أعلم كل نَفَسٍ صرفته أين وكيف ولماذا؟ سأعدُّ الخطوات التي مَشيتها للوصول إلى محبوبي سأعدُّ الدقائق والثواني مقارنة بسنوات البعد والجفا التي ابتعدت بها لحظات الغفلة، وليتَ النشوة تعدُّ وتذكرُ حال الهروع والأوبة بعدها لأعرب عنها. سأعدُّ أكوامَ السعادة التي حصدتها بكلّ خير. وأكوامَ التعاسة التي جنيتها بكل حماقة. سأعدُّ الأماني والرغبات التي تطلعت لها حتى باتت مضمحلة في اللحظة الآنيَّة لا غاية لي منها ولا مطلب. سأعدُّ وأعدُّ وأحذفُ وأحذفْ فلا يبقى إلاَّ الخلاصة. حتى إذا حضرت لي الأيام بزهوها وذبولها بت أعرف سُقياها وعلاجها مع تباين نوعها وطرقها. سَـألتفتُ للخلف لا للندم وإنَّما لأحفظ جيداً كلَّ حُفرةٍ وقعت بها وكلَّ يَدٍ نهضَت بي منها. سألتفت لذاتي لأجمع شتاتي مودعة أخطائي وعثراتي التي ربما سألقى غيرها مُلحق الطريق قريباً، ولكن الأهم ألا ألقاها بعد الوداع! سألتفت لجزئي الأعلى من جسدي حيث وضعت به كل أعلى برغبة مني أو بغيرها، سأذكره وأذكره وأصادقه بكل جديد خوفاً على تفلته وضياعه بعد كل جهد مبذول لبنائه وعمارته. سأذكرُ لا شك لحظات الوداع لحظات القلق والألم وسأذكر كل دمعة جفَّ نبعها وانطوى زمانه دونَ عودة! سأذكرُ النَّظرات الـنَّاعسة حين غَلبها اليأس، حيث خفضت الجبين للأسفل طالبة الجبرَ والعون والرحمة فارتقت حبلى بكل انشراح وطمأنينة وبهجة. سأذكرُ لا شك بيـاضَ البيـاضَ، ذاك الجزء الأهم والأطهر في تلك السنوات قبل غيرها، وكيف لا يكون وقد حمل بين ثناياه الثُلَّة الأطهرَ والأصفى مِن الخلائق! منشأه وسبب وجوده، مع كلَّ صاحب فضلٍ وعلمٍ عليه، وكلَّ نقاء وجد حوله صار فيه! سأذكر حاله حين دخله ذاك الفيروس معتدياً على جماله ومخرباً لهدوئه وصفائه، وما أصابه من خدوشٍ وجروحٍ بعده، ثُـمَّ سأضع على بابه علامة "ممنوعٌ الدخول لمن ليس لديه عمل". سأذكرُ وأذكر وأحذف وأحذف حتى لا يبقى إلا الذكرى! «لعلَّ الذكرى تنفعُ المؤمنين».. سأعيد تبويب عقلي وكياني بِكُـلّه ليتناسب مع حياة صرت المسؤول عن تدبيرها أو تشتيتها، سعادتها أو تعاستها، فلاحها أو إخفاقها بلا رادع أو تدخل فيها إلا من رحم ربي من مرشد أو عابر بهذا الطريق. سواء كنت قبل أو بعد أو ذا ثمانية عشر عاماً، فعليك دوماً أن تتذكر أنَّ نظرة واحد لشارع واحد في مدينة واحدة تكفيك لأن تعرف أنك يمكن أن تكون 18 قبل ذلك بكثير، ويمكن أن تظل تحت 18 وأنت أكبر من ذلك بكثير، ويمكن أن لا يعني 18 لك، إلا ذلك اللهاث اليومي، للانتهاء من كل تلك الواجبات، بينما عليك أن تبحث بالسراج والفتيلة عن الحقوق الحقيقية التي ستتمتع بها. فمعظم الكبار ينسون أنهم كانوا صغاراً، وينسون كل ذلك التمرد والمجهول، والفاعلية، والأحلام، بل عملياً فإن ما ينجزه كثير من الناس خلال سن الشباب، هو أنهم يتعلمون كيفية التخلي عن أحلامهم، وكيفية تبني العادات والتقاليد التي كانوا يعترضون عليها، وكيفية القبول بواقع كانوا يرفضونه. وأنا الآن على أبواب الثمانية عشر، أحمل حقيبة الأماني على ظهري، تشدني نحو الأعلى كلما أثقلت مافيها، راجية المولى أن أبدأ بإفراغها على الطريق أمنية تلو الأخرى، قبل أن أصل لآخره وقد أعياني التعب ولا أستطيع حملها لأكثر مما حملت.. فلا تجعلوا الطريق يمضي دون تزويد حقائبكم بما يلزم، فالحقائب تتسع للكثير الكثير. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.