صحيفة وصف : خصّص الأستاذ بالمعهد العالي للدعوة والاحتساب وإمام وخطيب جامع الراجحي بالرياض، الدكتور حمزة بن سليمان الطيار، خطبة الجمعة الْيَوْمَ للحديث عن العنف الأسري، بمناسبة حادثة نحر الطفلة في الأحساء ومقتل الأب وابنته وإصابة الأم على يد أحد أبنائهم في مكة المكرمة. وشرح الطيار أنواع العنف الأسري ومسببات تلك الجرائم فيما دعا إلى الإحسانِ إلى ذوي القُربى، ومعاشرةِ الأزواجِ بالمعروف. وقال خطيب الجمعة: إن من الْمِنَنِ الْعُظْمَى، وَالنِّعَمِ الْكُبْرَى، الَّتِي تجبُ معاهدَتُها بِخَالِصِ الشُّكْرَانِ، وَتَرْدَادِهَا بِأَلْسِنَةِ الْعِرْفَانِ، نِعْمَةَ كيانِ الْأُسرةِ الَّتِي مِن عُرُوقِهَا تَنْبُتُ دَوْحَةُ الْمُجْتَمِعِ، ومنها تَنْبَثِقُ فروعُ الْأُمَّةِ، حَاضِنَةٌ إِلَى دِفْءِ حِضْنِهَا يَأوِي الْأَفْرَادُ، ومن مَنْبَعِ أَصَالَتِهَا تُرْتَضَعُ الْأمْجَادُ، مِظَلةٌ من حُرِمَ بَرْدَ ظِلِّهَا اكْتَوَى بلَفَحَاتِ التَّشَرُّدِ، وَتَجَرَّعَ مُنَغِّصاتِ التَّوَحُّدِ، وَلِأجْلِ ما للأسرةِ من مكانةٍ نَبِيهَةٍ، وَمَنْزِلَةٍ رَفِيعَةٍ، امْتَنَّ اللَّه عَلَى عِبَادِهِ بِإِيجَادِهِ هَذِهِ الرَّابِطَةَ المتنيةَ، فقال: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا). وأضاف: قال ابن عطيةَ رحمه الله: (هو تعديدُ النعمةِ على الناسِ في إيجادِهِمْ بعد العدمِ، والتنبيهُ على العبرةِ في ذلك، وتعديدُ النعمةِ في التواشُجِ الذي جُعِلَ بينهم من النسبِ والصهرِ)، وقال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون). وأردف: لقد عدَ الله تعالىّ من آياتِهِ الكونيَّةِ الامتنانَ بالحياةِ الزوجيَّةِ، وما تَنْطوِي عليهِ من التَّوادِّ والتَّراحُمِ، والترابطِ والتلاحُمِ، وإذا انْضَبَطتْ هذه العَلاقةُ بميزانِ المحبةِ والوئامِ، وتناسَقَتْ في سِلكِ التَّآخي والانْتظامِ، وانْقَادتْ لقواعدِ الشرعِ الحكيمِ، وسَادَتْهَا المعاشرةُ بالمعروفِ، إذا تحقَّقَ هذا تَحَوَّلَ غِراسُ الزوجيّةِ –بإذن الله- إلى رياضِ أُسَرٍ تزْهُو ببهائِها الباهرِ، وتتَحلَّى بجمالِ الباطنِ والظاهرِ، لا تزالُ دِيَمُ التوفيقِ تنْهَمرُ عليها وادقةً، ولا تزالُ مَجَانيها دانيةً على المجتمعِ وارقَةً. وتابع: على النقيضِ من ذلك إذا وَهَتْ عُرَى المودَّةِ، وأَخْلَقَتْ حِبالُ العِشْرةِ، كان ذلك ذريعةً إلى الانجرارِ نحوَ العُنفِ والتفكُّكِ، والانهواءِ في هاويةِ التمزُّقِ، فبدلًاً من أن تكون الأسرةُ واحةً غنَّاءَ يُتَفَكَّهُ فيها بيوانعِ السعادةِ، بدلاً من ذلك تصيرُ غابةً يُكتوى فيها بلَظى الشَّقاوةِ، وتَتَعاركُ فيها سباعٌ شديدةُ الضراوةِ، يَعتدي القويُّ منها على الضعيف، وقد شاعَ تسميةُ هذه التعدياتِ بالعنفِ الأُسْرِيِّ، وهو صدورُ الأذى بأنواعهِ من فردٍ من الأسرةِ مُوجهاً إلى فردٍ آخرَ منها، والذي يتبادر لذهنِ بعضِ الناسِ أنه محصورٌ فَحَسْبُ على الإيلامِ البدنيِّ، وهذا فهمٌ قاصرٌ، فالعنفُ لا يتوقفُ على ذلك فحسبُ، بل له مظاهرُ عدةٌ، وصورٌ متنوعةٌ. وقال الطيار: من أمثلة هذا العنف (الإيذاءُ البدَنُّي) ويتراوحُ ما بين أدنى درجاتِهِ وهو الضربُ الخفيفُ، وبين أعلاها وهو القتلُ، وبينهما مراحلُ كثيرةٌ مِلؤُها المرارةُ والحَسرةُ، كالتضييقِ في البيتِ، والحبسِ فيه، أو الطردِ منه، وقد تَرسَّخَ في بعضِ الأذهانِ ارتباطُ هذا النوعِ من العنفِ الأُسْريِّ بالرجلِ، وصدورُ العنفِ منه تجاه أسرتهِ يَنِمُّ عن تجذُّرِ الجفاءِ والرُّعُونَةِ، ونقصٍ في الرجوليَّةِ والمُروءةِ، وعَوَزٍ كبيرٍ في الشهامةِ، وعدمِ استحقاقٍ لأهليةِ الرعايةِ. وأضاف: وإن كانَ يَغْلِبُ صدورُهُ من الرجلِ إلَّا أنه في الحقيقةِ يَصْدُرُ من غيرهِ؛ لأن العنفَ سُلُوكٌ يَنْشَأُ عن غِلْظَةِ الفؤادِ، وخمودِ المشاعرِ، فقد تنْسَلِخُ المرأةُ هي الأخرى من رِقَّةِ إحساسِهَا، ودِفءِ حنَانِها، فتنقلِبُ ضَبُعَاً فتّاكةً، تُمَزِّقُ كُلَّ ما نَشِبَتْ بهِ أنيابُها، تغتالُ ظاهراً إن قَدِرَتْ، وتَكيدُ باطناً إن عَجَزَت، وأخطرُ تصرفاتِ هذا النوعِ من النساءِ الفتكُ بأولادِ الزوجِ مِنِ امرأةٍ أخرى، وفي هذا من الغدرِ، وخيانةِ الأمانةِ، والمبالغةِ في الإذايةِ ما لا نظيرَ له، وإن من علاماتِ سوءِ الطَّوِيَّةِ، وخُبْثِ السريرةِ أن يُسْلَبَ الطفلُ البرئ حُشاشَةَ روحِهِ، ونَضارةَ عُودِهِ، على يدِ أيِّ أحدٍ لا سِيَّما إذا كان المعتدِي مِمَّن تربِطُهُ بأبي الطفلِ أوثقُ الروابطِ، وأمتنُ الأسبابِ. وأردف: قد يَتَنَمَّرُ الولدُ فَيَصِلُ به النَّزَقُ إلى حدِّ التعدِّي على أبويْه وإخوتِهِ، وهذا من أغربِ أنواعِ العنفِ الأُسْريِّ، وأشدِّها إيغالًاً في القَبَاحَةِ والشناعَةِ، وتعَمُّقًاً في الفظاعَةِ، ولا يَصْدُرُ إلَّا ممن ماتتْ نَخْوتُهُ، وانْتكسَتْ فِطرتُهُ، وتخبَّطَ في ظُلْمةِ الضلالِ مُمْتطيًا شهوةً جامحةً، أو شبهةً جانحةً، ومنَ المُؤْسِفِ أن نرى وقائعَ من هذا الشذوذِ في مجتمعِنا المتَمَسِّكِ بديانَتِهِ، النبيلِ في أخلاقِهِ، الأصيلِ في قِيَمِهِ ومبادئِهِ، ولا شكَّ أن صدورَ مثلِ هذا عن الناشئةِ مما جَنَتْهُ فئتانِ دخيلتانِ على مجتمعِنا إحداهما مُدَمِّرو الأخلاقِ من مروِّجي المنكَراتِ باختلافِ أنواعِها خصوصاً المخدراتِ والمسكرات، والثانيةُ الفئةُ الضالَّةُ التي غرَّرتْ ببعضِ السفهاءِ حتى مارسَ العنفَ على أبويهِ، وأقربِ الناسِ إليه. وتابع: لقد حمتِ الشريعةُ أفرادَ الأسرةِ من هذا العنفِ، فحثَّتْ على الإحسانِ إلى ذوي القُربى، ومعاشرةِ الأزواجِ بالمعروف، ولم تُجِزِ العُدوانَ مطلقاً، بل زَجَرَتِ الزوجَ عنه، مع أنه القوّامُ على الأسرةِ، وبه تُناطُ وظيفةُ التأديبِ والتقويمِ بضوابطِها وله الإمرة، فعَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لاَ يَجْلِدُ أَحَدُكُمُ امْرَأَتَهُ جَلْدَ العَبْدِ، ثُمَّ يُجَامِعُهَا فِي آخِرِ اليَوْمِ» متفق عليه، وقال ابن حجر رحمه الله: وَفِي سِيَاقِهِ اسْتِبْعَادُ وُقُوعِ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْعَاقِلِ أَنْ يُبَالِغَ فِي ضَرْبِ امْرَأَتِهِ ثُمَّ يُجَامِعَهَا مِنْ بَقِيَّةِ يَوْمِهِ أَوْ لَيْلَتِهِ وَالْمُجَامَعَةُ أَوِ الْمُضَاجَعَةُ إِنَّمَا تُسْتَحْسَنُ مَعَ مَيْلِ النَّفْسِ، وَالرَّغْبَةِ فِي الْعِشْرَةِ، وَالْمَجْلُودُ غَالِبًا يَنْفِرُ مِمَّنْ جَلَدَهُ، فَوَقَعَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَمِّ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ إِنْ كَانَ وَلَا بُدَّ فَلْيَكُنِ التَّأْدِيبُ بِالضَّرْبِ الْيَسِيرِ بِحَيْثُ لَا يَحْصُلُ مِنْهُ النُّفُورُ التَّامُّ، فَلَا يُفْرِطُ فِي الضَّرْبِ، وَلَا يُفْرِطُ فِي التَّأْدِيبِ، وكذلك كان العنفُ البدنيُّ مخالفاً للسنةِ النبويةِ الفعليةِ. فعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ، وَلَا امْرَأَةً، وَلَا خَادِمًا، إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ أخرجه مسلم. وقال الطيار: من صور العنف كذلك (الإيذاءُ القوليُ) ونكايةُ هذا العنفِ القوليِّ قد تكونُ أقسى من نكايةِ الضربِ، فالألمُ الحاصلُ بالضربِ سريعُ الزوالِ، خفيفُ الأثر، وألمُ الجراحاتِ القوليةِ لا يندملُ، ولا ينمحي أثرُهُ في النفس. وأضاف: جِرَاحُ السَّيْفِ تُؤلُمِ ثم تَبْرا ولا بُرْءٌ لما جَرَحَ اللّسانُ وأردف: لقد شاعَ من أنواعِهِ اللومُ الزائدُ، والعِتابُ المتكررُ، والنقدُ الممجوجُ الذي لا يُبَرَّرُ، والتوبيخُ الذي يكْسِرُ النفوسَ، ويُوغِرُ الصدورَ، ويُحزنُ القلوب، ومنِ استضاءَ بسنةِ نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم ابْتَعَدَ عن أدنى أساليبِ الإيذاءِ، فقد كان من شمائلِهِ الكريمةِ، وخصالِه الرفيعةِ عدمُ الإيذاءِ ولو بالقولِ، بل ولو بأخفِّ الألفاظِ، بل ولو بألطفِ عباراتِ العتابِ والتأنيبِ، فعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: خَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ، لَا وَاللَّهُ مَا سَبَّنِي سَبَّةً قَطُّ، وَلَا قَالَ لِي: أُفٍّ قَطُّ، وَلَا قَالَ لِي: لِشَيْءٍ فَعَلْتُهُ لِمَ فَعَلْتَهُ؟ وَلَا لِشَيْءٍ لَمْ أَفْعَلْهُ أَلَّا فَعَلْتَهُ متفقٌ عليه، وصدق الله: (وإنك لعلى خلق عظيم)، فما أعطفكَ يا نبيَّ الله، وما أرحمك، وما أجلَّك، وما أعظمك. وتابع: يتفاقمُ العنفُ البدنُّي فَيصِلُ إلى أبشعِ صُوَرِهِ، وأقسى مظاهرِهِ، وهو القتلُ، كذلك يتفاقمُ العنفُ القوليُّ فيتناهَى في نكايتِهِ، ويتوغَّلُ في إذايتِهِ، فَيصِلُ الإسفافُ فيه إلى حدِّ القذفِ، وتدنيسِ العرضِ، وحمايةً للمجتمعِ من خطورةِ هذا العنفِ وَثِقَلِ وقعتِهِ أوجبتْ فيه الشريعةُ حدَّاً في ظهرِ المفترِي، وكان من جملةِ الكبائرِ الموبِقاتِ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ» قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: «الشِّرْكُ بِاللهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ وَأَكْلُ الرِّبَا، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصِنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ». وقال خطيب الجمعة: ذكر بعضُ أهلِ العلم أن ليس المقصودُ قذفَ النساءِ فقط دونَ قذفِ الرجالِ، بل قذفُ الرجالِ أيضاً مثلُ قذفِ النساءِ،.. ولكنه جاءَ التعبيرُ بالمحصَناتِ لأن إلصاقَ هذا العيبِ بهنَّ أخطرُ وأشدُّ من إلحاقِهِ بالرجلِ؛ لأنه يترتبُ على زنا المرأةِ إفسادُ الفراشِ، وإلحاقُ الولدِ بغيرِ أهلِهِ، وربما يُنتفَى منه بلعانٍ، فيكونُ في ذلك إفسادٌ للفراشِ، واختلاطُ الأنسابِ).أ.ه وأضاف الطيار: النوع الثالث هو (الإيذاء الروحيُّ) ويكون بالأعمالِ السحريةِ، والشائعُ من دواعي هذا العنفِ نوعان؛ فأما النوعُ الأولُ فهو العدوانُ البحتُ، وحبُّ الانتقامِ، وينشأُ ذلك عنِ انطواءِ نفسِ أحدِ الزوجين على حقدِ الآخَرِ، فيُضمِرُ له من الشرِّ ما لا يجدُ مُضْمِرُه بُدًّا من السعيِ لتنفيذِهِ ترويحًا عن نفسِهِ، فلا يملكُ الشجاعةَ لتجليتِهِ، وكشفِ القناعِ عنه، وكثيراً ما يكونُ المانعُ بالنسبةِ للرجلِ خوفَه من تبِعَاتِ الجريمةِ الظاهرةِ، وما يتبعُها من تنفيذِ العدالةِ فيه، وربما كان المانعُ بالنسبةِ للمرأةِ عدمَ القدرةِ على إنزالِ النكايةِ بيدِها، فيكونُ الخيارُ اللجوءَ إلى الأعمالِ السِّحريَّةِ. وأردف: أمّا النوعُ الثاني فهو إرادةُ العطفِ والصرفِ؛ فبعضُ الناسِ قد يُمارسُ هذا العنفَ لا بقصدِ مجردِ الإضرارِ بقريبِه، أو بشريكهِ في الحياةِ الزوجيةِ، بل لغرضِ عطفِهِ عليه، أو صرفِهِ عن شخصٍ ما داخلَ الأسرةِ من قريبٍ أو زوجٍ، أو زوجةٍ، فيرتكبُ الغلطَ المُميتَ بعملِ السحرِ له، طامحاً بنظرِه نحوَ النتيجةِ المُتَوهَّمَةِ، جاهلاً بخطورةِ هذه الوسيلةِ المُحَرَّمَةِ، غافلاً عن أنه جلَبَ إلى صاحبِهِ سلسلةً من المتاعبِ الفوادحِ، ولن يستفيدَ بعد مرضِ صاحبِهِ شيئاً من المصالحِ. وتابع: الإيذاءُ الروحيُّ أياً كانت دوافعُه يُعتبرُ من أقسى أنواعِ الإيذاءِ، وأسوئِها أثراً، فهو مِعْولُ الهدمِ الذي يُحَوِّلُ البيوتَ العامرةَ إلى أنقاضٍ، ويَقْلِبُ الحياةَ المستقرةَ رأساً على عَقِبٍ، ويجعلُ المُعَنَّفَ يعيشُ حياةَ السجناءِ وهو في بيتِه، ويَنْزَوِي انزواءَ الغرباءِ وهو بين أهلِه، تُحاصِرُه صنوفُ التعاسَةِ، وإن امْتَلَكَ وسائلَ السعادةِ، خَسِرَ نفسَهُ وحياتَه، وخسِرَتْهُ أسرتُهُ ومجتمَعُهُ، وخسرَهُ من سَحَرَهُ لِيعطِفَهُ عليه، أو ليصرِفَهُ عن شخصٍ ما. وقال الطيار: ما في السحرِ إلا أضرارٌ مَحْضَةٌ مدمِّرةٌ، ولا توجَدُ فيه ذَرَّةُ منفعةٍ، ومن أبشعِهِ ما كان منه لصرفِ أحدِ الزوجينِ عن الآخَرِ، فقد تضمَّنَ السحرَ وما فيه من الإيذاءاتِ، وتضَمَّنَ الإفسادَ، وفكَّ الارتباطِ المتينِ، والميثاقِ الغليظِ، والأُلْفةِ العميقةِ التي تتجسَّدُ في الزواجِ، ولما ذمَّ اللهُ السحرَ ذكرَ خصوصاً هذا الضررَ البالغَ، فقال تعالى: (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُون). (0)