×
محافظة المنطقة الشرقية

العلاج بالطاقة دجل واحتيال

صورة الخبر

دقت ساعة الرحيل واكتمل الغياب. ضاج المشهد وماج بين مفتقد يعرفه عز المعرفة. ولائم يسأل لماذا لا نعرف الطيبين إلا بعد مماتهم. بين سائل هل تجوز عليه الرحمة. ومدافع كان القرآن بيده. صور وأسئلة لا تشبه الرجل البسيط جدا والعاشق لحديث الثقافة والمثقفين بقدر ماتشبه خلافاتنا الممجوجة والمنفرة. ليست الشيوعية ولا الاشتراكية ولا حتى ربطة عنقه الحمراء ما كان يميز صالح المنصور عن الباقين. إنما الحضور المجد لجميع المناسبات والمحافل الثقافية عن حب و"بلا دعوة". في حين يغضب مثقف محتجا على اسقاط اسمه من قائمة المدعوين. ويحزن آخر على اختيار فندق متواضع لا يليق بتاريخه الأدبي. بينما يتباكى ثالث على حال ثقافة البلد ومكانتها عطفا على قائمة الطعام المقدمة لضيوفها وليس على ما يقدمه وتقدمه هذه الثقافة لرواد مشهدها. لمحته من بعيد على هامش "كتاب الرياض" الأخير - وأنا الطارئ على هذا المشهد - يتناول طعامه منفردا. فدعوت نفسي لمائده صغيرة لا تحتمل شخصا ثالثا. شعرت بنفوره لوهلة. وَيَا للعجب فالرجل المسن الذي لا يمل التنقل بعكازه كنحلة بين مجاميع المثقفين والأدباء في حضرة الحديث والقهوة. لا يحتمل أن يشاركه طاولة الطعام شخص آخر. وكأن أبا نضال يقول لنفسه "أنا من يختار أرض المعركة وليس أنت". رغم ذلك، بادرته بالتحية والسؤال لنتجاوز لحظة الجفول الأولى. فلا هو يعرفني ولا أنا وسط جموع تحيي بعضها البعض بحرارة. وهذا من وجهة نظري على الأقل مشترَك يستحق البقاء ومزيدا من التواصل. في مفرداته كما نبرة صوته تختلط اللكنة النجدية بشامية لا تخطئها أذن السامع، لكن قد تبررها ثقافة يسارية تشربت الكثير من رؤى "عروبة" مثقفي الستينيات وخطاباتهم المرتجلة. "لطالما شاهدتك مرارا ولكن لم أجرؤ يوما على سؤالك من أنت"؟ بادرته وهو يمضغ طعامه على عجل. فجاوبني بصرامة وبحداثة لم أكن لأتوقعها: ابحث في "اليوتيوب" عن الشيوعي الأخير وستجدني. مازحته قائلا: سعدي يوسف إذن؟ لم يثره التشبيه والإسقاط بل أزعجه على ما يبدو. مكملا على مضض: هي رواية لإبراهيم الوافي فيها شيء من سيرتي. وانا بصدد الرد عليها برواية أخرى بعنوان "شيوعي من الرياض". أخبرته عنوانك أكثر إثارة فالتباين بين الرياض الوادعة والفكرة اليسارية الصاخبة شديد وملحوظ. وهنا انفرجت أساريره مثنيا على كلامي ومكتفيا بالإيجاب نعم نعم. الفضول الذي استنفرته نظرات هذا الرجل يشي بقصة إنسانية تتجاوز صبغة اللون الأحمر وأيديولوجيته ويدعو إلى الاسترسال بعيدا عن شجون الثقافة ومشهدها. تحدث عن أبنائه واختياره لأسمائهم ومدى فخره بهم. لكن في العموم كان مقتضبا يوجه دفة الحديث كما يريد لا كما أريد. حاولت استفزازه مجددا إذا ما كان بإمكانه وحده إتمام كمية الطعام الكبيرة التي جمعها من البوفيه المفتوح. "هي ليست لي فقط وليست لهذا الوقت بل لأوقات أخرى.. للمساكين وللطيور". أجابني ثم أظهر لي كيسا فارغا اعتاد أن يجمع فيه ما تبقى من طعام. صالح المنصور ليس مفكرا ولا أديبا ولم يكن يدعي يوما ذلك. وما سطر حول شخصيته في شبكات التواصل وتقارير بعض القنوات والصحف بعد خبر وفاته إثر حادث دهس. فيه كثير من مبالغة المحبين المفجوعين. التي كان لمظهره المغاير وحضوره المختلف للوهلة الأولى دور فيه ولا شك. إلا أن هذه المحدودية على مستوى الإنتاج الأدبي والثقافي لا تعني أننا لم نخسر برحيله ذاكرة مهمة لتوثيق مسيرة الثقافة الوطنية. بل إن الخسارة بدأت منذ زمن وفقا لمجايليه، إذ كان يصر الراحل على انتقاء ما يريد قوله وما لا يريد بحذر واضح تغلِّفه جرأة مقصودة في الاسترسال على حساب الاصغاء أو بمعنى آخر الهرب إلى الأمام ملقيا ومنشدا ما يختاره ويحفظه من قصائد ومرويات. محفوظات لطالما تبرم من تكرارها على مسامعهم نفس الأشخاص الذين تدعوهم سياقات الحزن الجماعي الافتراضية للاحتفاء بالراحل اليوم. ولكن لعلها هيبة الموت وسطوة الفراق الأخير. ليظل المنصور بلا أدنى شك حالة فارقة في المشهد الثقافي السعودي. إذ تفانى تجاه ما أحب. مفضلا "تقية الصعلكة" ليقول ما يريد وقتما يريد. تاركا للمشهد ومثقفيه الانقسام حوله في حياته تماما كما في مماته. فالتنويري الإنساني يرى فيه عقلانية الحداثة ومطلبها. واليساري يرى فيه ثورة الشيوعية وألوانها. بينما الأكيد أن صالح المنصور رحل يحمل "صندوقا أسود" فشلنا جميعا في استنطاقه. ليبقى السؤال الأهم اليوم: من سيطعم الطيور في غيابه؟