* محمد رفيع هُوَ هُوَ.. لا يبتعدُ عن الناسِ، إلا ليقتربَ منهم أكثر. عمون - يغيبُ، يختفي، حتى لتحسبه هاجرَ، أو في سفرٍ طويل. ثمّ فجأةً، يفاجئكَ بعمل فَنِّيٍّ مُدهشٍ، يستلبُ إحساسَكَ وبصرَكَ، وبصيرتكَ أيضاً، فتغرق، وإيّاه، في حُلمٍ طويلٍ لا حدَّ له. كأنّ هذا هوَ المَعنى الحقيقيّ للفنّ، أو الرَسم، كما يسمّيه صاحبُنا، بتواضعِ المَوهوبِ الحقيقيِّ، الذي يرى أنّ الإبداعَ الفعليّ هو عملٌ حقيقيٌّ، لا أساطيرَ فيه ولا معجزات، بل تفتيح لبصائرِ الناسِ وأبصارهم، على مكامن الجَمال المُتخَفِّي في حَيواتهم، ألواناً وأشكالاً ومساحات وكُتَلاً، وممارسات سلوكيّة أيضاً.. إنّه «مهنّا دُرّة».. ذلك الأردنيّ العربيّ الإنسانيّ الموهوب بحقّ. قبل أسابيع، أنجزَ جداريّةً عملاقةً، تُقاسُ أبعادها بالأمتار. جداريةٌ لا تأخذ بألبابكَ وحواسّكَ إلى حافّةِ الحُلمِ فحسب، بل تأخذكَ إلى ما بعدَ الحُلم، نحوَ قِممٍ عاليةٍ، شاهقةٍ، تأخذُ الأنفاسَ وتحبسها. قِممٌ يرتقي فيها اللون، والكتلة والشكل، إلى طورٍ آخر من الإحساس البشريّ. فَمِن عادة اللوحات الفنيّة، أن تُصِرَّ على إبقاءِ مسافةٍ كافيةٍ، بينها وبين المُتلَقي، كَي تكشفَ له عن جماليّاتها. والغريبُ، في جداريّة الدُرّة الجديدة، أنّها تحثُّكَ، بشدّةٍ، وبجَدِّيّةٍ منقطعة النظير، للاقتراب منها أكثرَ فأكثر. وما إن تفعل، حتى تتكَشَّفَ لكَ جَماليّاتٌ تُحَسُّ، ولا تُبصَرُ. جَمالياتٌ تَتحسّسها بيديكَ وأصابعكَ. عندها، تدركُ أنّ الّلونَ، الذي تدرّجَ في تحوّلاته، ليكسرَ حِدّةَ الأحمر القاني والطاغي، إلى ألوان هادئةٍ رقيقةٍ شفيفة، لم يكتفِ بهذا التدرّج، في التحليقِ في دُنيا الجَمال الّلونيّ، بل قفزَ بكَ فجأةً، كَـ«رَفِّ غَرانيق» مُراوغ، في آفاقٍ شَاهقةِ العُلُوِّ، لتستحيلَ الألوانُ، بعدها، إلى سَماكاتٍ تُحَسُّ، ولا تُبصَرُ. سَماكاتٌ لَونيّةٌ تَكسِّرُ الألوانَ والأشكالَ والرموزَ، لترسمَ فضاءاتٍ أخرى، لأرواحٍ لا يَروي ظمأها أيُّ جَمال. إنّه «مهنّا دُرّة»، ذلكَ الرَهيفُ الحَسيسُ الجَميلُ والنَبيل. في الليل، ووفي مصادفةٍ عاديةٍ عابرة، وأثناءَ زيارةٍ لأحدِ الأصدقاء، في مدينة الحسين الطبيّة العسكريّة، ذلكَ الصرح الطبيّ الأردنيّ، الأعرق والأبهى، لَفَتتني، في مبنى الإدارة الرئيسيّ، خَمسُ جدارياتٍ عملاقة، مُعلّقة في البهو الرئيسيّ للمَبنى. فقرّرتُ العودةَ، في اليوم التالي، نهاراً، لأتبيّنها أكثر.. وبالفعل، عُدتُ، نهاراً، فأبهرَتني الجدارياتُ الخَمسُ، المعلّقة هناك، بجماليّاتها وتاريخها ودلالاتها. إذ تعود تلك الجداريّات، التي أبدعَها الفنّانُ المُلهَمُ مهنّا دُرّة، إلى العام 1973، أي إلى زمن الافتتاح الرسميّ، لمدينة الحسين الطبيّة، في مثل هذا الوقت من شهر آب / اغسطس من العام 1973. وفي سنوات لاحقة تم تجديد تلك الجداريات . المدينة الطبيّة، ذلكَ الصرح الأردنيّ الشامخ، التي بدأ العملُ في تأسيس مَبانيها بعد نكسة العام 1967، بأقل من عامين، أي في العام 1969، لتُنجَزَ، كأنّها حُلم، بعد أربعة أعوامٍ طوال. الجداريّاتُ، وتأسيسُ المدينة الطبيّة، ومهنّا درّة، والعام 1973، كان أوّل ما لَفَتني، وأثارَ تساؤلي وحيرتي في آنٍ معاً.. «عَسكَرٌ»، و«مدينةٌ طبيّةٌ»، و«لَوحاتٌ فنيّةٌ»، و«تأسيسٌ»، و«مهنّا دُرّة»، وفي «العام 1973»..؟ كَيفَ يهتمُّ العسكرُ بالفَنِّ، ومنذُ مَتى..؟ لاحقاً، أجابني مهنّا دُرّة، عن تساؤلي بقصّةٍ، فقال: «في الحرب العالميّة الثانية، قِيلَ لتشرتشل، رئيس وزراء بريطانيا، إنّنا، ولضرورات التقشّف، بسبب الحربِ، نريدُ تخفيضَ ميزانيّة الفنون الجميلة والثقافة..! فأجابهم تشرشل، مستغرباً ومستهجناً: إذا كُنتم تريدون تخفيض ميزانيّة الفنون والثقافة، فلماذا نحارب إذن..؟! ». اكتفيتُ بتلك الإجابة العميقة، وأرجو الله أن يقرأ تلك الاجابة أكبرُ عددٍ من المسؤولين في البلاد، وخصوصاً المسؤولين في قطاعي الثقافة والفنون. ودَعوتُ الله أن يحميَ الأردنّ و«عسكرَ الأردنّ». عُدتُ، لاحقاً، لتوثيق تلكَ الجداريّات، والاحتفاظ بصورها الفوتوغرافيّة، على الأقلّ، في أمانة عمّان، لأنّها من كنوز التراث الجّميل، والثّمين، لعمّانَ العاصمة والمدينة. ولم يُقصِّر الضبّاطُ والأطباءُ العسكريون، في قسم التوجيه المعنويّ، في المدينة الطبيّة، وقدّموا المساعدةَ الممكنةَ، في السَماح لي بتصوير تلك الجداريّات. مع الاعتذار للقاريء الكريم، عن عدم جودة الصُور المعروضة، بسبب مكان الجداريّات، والإضاءة، وانعكاسها على الزجاج، الموضوع لحماية الجداريّات. ملاحظة أخرى، أتمنّى ان يتّسع صدر القائمين على إدارة مدينة الحسين الطبية لَها. وهي أنّ تلك الجداريّات، علاوةً على قيمتها الفنّيّة والتاريخيّة والتراثيّة، وعلاوة على ما تُوليه تلك الإدارة من عناية بهذه الجداريّات، فإنّها بحاجةٍ إلى صيانة متخصّصة. بَقي أن أقدّم شَرحاً بسيطاً مختصراً لتلك الجداريّات، وبمقدار ما تُسعفني به لُغتي. مع التأكيد بأنّ اللغةَ، ومهما تعالَت، لا يمكن لها أن تكون بديلاً لـرؤية (الجداريّات الفنّيّة)، المشغولة بالّلون، والشكل، والكتلة، والحسّ الإنسانيّ والمعرفة؛ مهنا درة .. في سطور وُلد في مدينة عمّان عام 1938. وفي العام 1958، تخرّج من أكاديميّة روما للفنون الجميلة. وبعد أن أسّس، سنة 1970، أوّل معهد حكومي للفنون الجميلة، عُيّن مديراً عامّاً لدائرة الثقافة والفنون الأردنيّة، ليشغل فيما بعد منصب مدير الشؤون الثقافية لدى جامعة الدول العربية في تونس، وسفيراً لها في كلّ من روما وروسيا الاتّحاديّة. عمل، وما يزال، أستاذاً في كليّة الفنون الجميلة في الجامعة الأردنية. أقام معارض شخصيّة في كلّ من؛ جورج تاون – واشنطن، قصر فينيسيا في روما، موسكو، سانت بيتر سبورج، كان آخرها في قاعة برلمان النمسا برعاية رئيس جمهوريتها الحالي. كما شارك في مهرجانات دولية، أهمّها بينالي فنيسيا عام 1988. هذا وتوجد أعماله ضمن مجموعة ديفيد روكفلر وبنوك أمريكيّة، مثل فاني مي في واشنطن، إضافة إلى جامعتي براون وسان فرانسيسكو. الأوسمة 1965 وسام الفروسيّة من قداسة البابا بولص السادس. 1970 وسام الكوكب الأردنيّ. 1977 جائزة الدولة التقديريّة الأولى من جلالة المغفور له الملك الحسين بن طلال. 1978 وسام النجمة الذهبيّة من وزارة الثقافة والتراث الإيطاليّ. 1980 وسام الشرف من اتّحاد الفنّانين العرب. 2006 وسام الشرف من رئيس الجمهورية الإيطاليّة. 2008 وسام العطاء المميّز من الدرجة الأولى من جلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين. ويُذكَر أنّ دُرّة عاش وعمل في عواصم أوروبيّة مختلفة، قرابة ثلاثين عاماً. الجدارية الأولى؛ ألوان لأشكالٍ شَفيفة.. أبعادُ الجدارية؛ غير متوفّرة. مواد تشكيل الجدارية؛ غير متوفرة. الألوان زيتيّة. في فضاءٍ يستطيلُ أفقيّاً، تأخذك هذه الجدارية في رحلة آسرةٍ، وعميقةٍ، في تدرّج الألوان والخطوط والاشكال. ففي أقصى يسارها، يرتسم الشكل المستطيل، شَفّافاً، مُحتلّاً فضاءَ اللوحة الأكبر، ومعترضاُ على شكل عَرضه التقليديّ، من خلال ارتكازه على إحدى زواياه، كاسِراً، بذلكَ، الانتظامَ التقليديّ البصري للمساحة المستطيلة..! ومن هناك، وبتدريجِ المساحة البصريّة فيكَ، نحو التضاؤل، من خلال الصِغر التدريجيّ لأشكال المستطيل، تبدأ الجداريّة حَثّهَا البصريَّ لكَ، بالخروج على الانتظام التقليديّ المملّ للحياة فيكَ، كَي لا نقولَ أنّها تدعوكَ إلى الثورة والانتفاضِ على كلّ ما يُقيّدُ حياتكَ..! قد يكون ما سبق تبسيطاً مُخلّاً لعناصر الجداريّة. فهيَ أعمقُ من ذلك بكثير. فالمساحةُ المستطيلة هنا، أخذَت شكلها المنتظم، والإيحائيّ، على هيئة ألوانٍ شَفّافةٍ، ومتداخلةٍ، ومعقّدةِ التنفيذِ، لا بخطوطٍ فَجّةٍ للرسم التقليديّ بلون واحد. فكلُّ حرفٍ، من حروف المساحة المستطيلة، لا يرتسمُ كَحدٍّ فاصلٍ، بين درجات لونيّة مختلفة للون الواحد فحسب، بل يتعدّاه إلى الارتسام كَحدٍّ فاصل بين ألوان مختلفة. وإمعاناً في العمق المبسّط، للمشاهدة، تُواصِلُ المساحةُ الشكليّةُ تداخلاتها، مع مساحاتٍ شفّافةٍ مجاورةٍ أخرى، لترسمَ درجةً من الشَفافية أكثر وضوحاً وصفاءً، في البصرِ والروحِ والنفسِ. وهذا، لَعَمري، تَجَلٍّ عَالٍ، في عُمقِ الإحساس بالّلون، والتمكّن مِن تطويعاته البصريّة. في الفضاءات الأخرى من الجدارية، «تهجم...! » الألوانُ، من أطراف الجداريّة، نحو مركزها (أي باتّجاه مساحاتها المستطيلة المنتظمة)، تماماً، كما هي الحياةُ اليوميّة للإنسان، بكُلِّ فوضاها. ولكن مَهلاً.. فما إن تُمعن التأمّلَ قليلاً، حتّى تكتشفَ التدرّجَ الّلوني للألوانِ، من أطراف الجداريّة نحو مركزها الشفّاف. وبدقّةٍ، فائقة القدرّة والاقتدار، يأخذكَ صاحبُ الجداريّة إلى قيمة الإرادة عند الانسان، والفنّان، في تطويع قسوة الحياة، التي يُقابلها مقدرةٌ فائقةٌ، عند الفنّان، في تَطويع ألوان الحياة؛ _ فالأزرقُ الداكنُ، في أطرافها، ينعكسُ إلى أزرق عاديّ بحريّ. ثمّ إلى أزرق سَماويٍّ رَحبٍ. ثمّ إلى شَفافيّةِ البياضِ الأوسع..! _ والبُنِّيُّ القاسي، الذي يشبه الطينَ، ينكسرُ إلى أصفر صحراويّ. ثم إلى لون الطمي الناعمِ الخصبِ. ثمّ يندمجُ مع الأزرق السماويّ الرَحب، في فضاءٍ شَفيفٍ، مُريحٍ للبصرِ والنفس. هذا بعضُ ما استطعتُ إحساسَه، في تلكَ الجداريّةِ البَهيّة. وهو إحساسٌ غيرُ مُلزمٍ لأحَد. الجدارية الثانية؛ خفة الكتلة.. أبعادُ الجداريّة؛ غير متوفّرة. مواد تشكيل الجداريّة؛ غير متوفّرة. الألوان زيتيّة. في الجداريّة الثانية، يقتحمُ الأزرقُ البَصرَ، على هيئة أمواجِ بحرٍ عَاصف. اقتحامٌ عاصفٌ وصاخبٌ، بغرضٍ أساسيٍّ، هو تَكسيرُ طُغيانِ كُتلِ العُمران المُتطاولِ، وهَيمَنتهِ، على النفس والروح. فيَهمَدُ الطُغيان الذي أثقلَ على البصائر. ويضعُف، ليستحيلَ إلى شَظايا مراكبَ حطّمها مَوجٌ عَاتٍ، ليُذكِّرَ بحقيقةِ وبداهةِ التواضع، كضرورةٍ لاستمرار الحياة. هنا، يصبحُ الأزرق الّلونيُّ الطاغي، في الجداريّة، ضرورةً، لَا تَرفاً، بما هو الإيحاءُ، بالبحر والموج والسماء. ولكنّه أزرقٌ مختلفٌ، رَحبٌ وصاخبٌ، ومتواضعٌ، في آنٍ معاً. أزرقٌ يُخضِعُكَ، أوّلاً، بالداكن والعَميق فيه، ثم ينحسرُ الخضوعُ فيكَ إلى محبّة. وبدرجةٍ لَونيّة أخرى منه، يحملُكَ على ظهره «سَفينَ بن يامنٍ»، فَتخِفُّ، أنتَ والبحرُ، وتتوحّدان بالسماءِ، في علاقةٍ آسرةٍ. وتتشظّى كُتلُ العُمران، المتطاول، إلى شَظايا، لتُصبحَ بِخِفَّةِ رِيشِ طائرٍ مُحلّق. أازرقٌ داكنٌ. ثمّ أزرقٌ بحريٌّ. ثمّ أزرقٌ سَماويٌّ. وبينهما قُرمزيٌّ وأبيضُ، ومِسحةٌ من أصفرِ الصحراء، تذكّرُ بفَيافِي العَرب القاحلة. .. بعضٌ من تأمّلٍ، في الجداريّة الثانية، غيرُ مُلزمٍ لأحَد. الجدارية الثالثة؛ تحليق الأزرقِ في الضوء.. أبعادُ الجدارية؛ غير متوفّرة. مواد تشكيل الجدارية؛ غير متوفّرة. الألوان زيتيّة. مِن هُناكَ إلى هُنا.. يأخذكَ «الدرّةُ»، في جداريّته الثالثة، إلى الريحِ، وإلى الضَوءِ، والى السرعة.. بالأزرقِ، وخطوطِ الشفافيةِ فيه، يحملُكَ إلى زَمن السرعةِ. وبمساحات البُنِّيِّ والبرتقاليِّ، والوان الحركة، يحملكَ، خَفيفاً، حالِماً، إلى فضاءاتِ الضوءِ وسرعاته. وبنقطةِ الأحمرِ، المُتخَفِّيةِ، في ألوانِ الضوءِ، هناكَ، كنقطةِ انطلاقٍ، تتمركز الجداريّةُ، كَلَيلةِ شِتاءٍ عاصفةٍ..! في مساحةِ هذه الجداريّة، يتغاوى الأزرقُ، ببهاءاتهِ، ودرجاته، ببَذخٍ فادحٍ. وفيه أيضاً، وبه، يتقدّم إليكَ «الدرّة»، «قادراً مُحتكماً»، بتواضعٍ يستعصي على الشرحِ والتبسيطِ أكثر من هذا. تواضعٌ للفنّان لا يكسرهُ سوى تلكَ الضربات الأخيرة لـ«الشفافية»، لتُحيلَ الجداريّةَ، بعدها، إلى مساحةٍ من «الجمال المعصوم»..!؟ .. بعضٌ من تأمّلٍ، في الجداريّة الثالثة، غيرُ مُلزمٍ لأحَد. الجدارية الرابعة؛ قمم وسفوح وفناءات صغيرة محلقة.. أبعادُ الجدارية؛ غير متوفّرة. مواد تشكيل الجدارية؛ غير متوفّرة. الألوان زيتيّة. ومِن هُناكَ إلى هُنا أيضاً.. حيثُ السفوحُ والقِممُ العاليةُ، وهاوياتٌ لا تُحَدُّ. تسكنُ الأحلامُ، على هيئةِ بيوتٍ ريفيةٍ صغيرةٍ، وفِناءات متواضعةٍ، بما هي النفسُ البشريّةُ، التوّاقةُ إلى الاختلاءِ، والتوّحدِ بالطبيعةِ الأرضيّة. سفوحٌ جرداءُ، ترسمها درجاتُ القُرمزيُّ، والأرجوانُ القاسي والثَقيلُ. وما بينهما آفاقٌ لسماءاتٍ رَحبةٍ ومتّسعةٍ. وفي المركزِ، بيوتٌ صغيرةٌ بفِناءاتٍ رَحيمةٍ، بما هي خصوصيّةُ الإنسان، الراغبِ في الاحتجابِ، عمّا حولَهُ، مِن فضولٍ ومخاطر. وبالأخضر، يختصرُ فنّانُ الجداريّةِ البهجةَ والمحبّةَ، والعملَ والحياةَ، بما هي الطبيعةُ الصامتةُ بذاتِها، وبما هي الرغبةُ العارمةُ، للفردِ، في الإقامةِ فيها بهدوءٍ خال من صخبِ الحياةِ المدنيّة. لا يَكُفُّ الفنّانُ، في هذه الجداريّة، عن تكشيفِ مقدراته، في تدريج الألوان، وفي مقدّمتها الأخضر. فمِن أخضرِ الحُقول، يأخذكَ إلى أخضرِ النفوسِ. ومنها إلى بهجةِ الجدرانِ الريفيّةِ، التي يسكُنها، ويتعمشقُها، أخضرُ العُشبِ، بتَكَبُّرٍ لا هَيمنةَ فيه لأحدٍ على أحَد. هكذا، بالّلونِ والكُتلةِ والمساحةِ، يحملكَ صاحبَ الجداريّةِ إلى حُلمكَ الفرديِّ، وإلى أحلامهِ، نحوَ قِمَمٍ عاليةٍ، وأخضرٍ رَحبٍ، وفضاءاتِ تَوَحُّدِ الأزرق. .. بعضٌ من انفعالٍ، مع الجداريّة الرابعةِ، غيرُ مُلزمٍ لأحَد. الجدارية الخامسة؛ الحلم.. وإخضاع الكتلِ المهيمنة.. أبعادُ الجدارية؛ غير متوفّرة. مواد تشكيل الجدارية؛ غير متوفّرة. الألوان زيتيّة. في الجداريّةِ الخامسةِ.. يعيدكَ «الدرّةُ» من أحلامكَ إلى أحلامك. فمِن تَحطيمِ العُمرانات، الطاغيةِ والمُهيمنة، بالأزرق البحريّ، يعيدكَ إلى تلكَ الكتلِ العمرانيّةِ المُتطاولةِ، في بيئتها الأرضية. فقط بألوانِ الأرضِ، الباردةِ، يسحبكَ إلى ضروراتِ تذكّر الواقعِ، والعَيشِ فيه، وعدمِ الخضوعِ له. فتهشيمُ الكتلةِ الطاغيةِ، على النفس والروح، ليسَ خياراً وحيداً أمامَ الإنسان التوّاق للانطلاق. فإعادةُ تركيبِ وترتيبِ عناصرِ الكتلةِ المهشّمةِ، لوحدها، أو بفعلِ فاعلٍ، هو خيارٌ آخرَ مسالمٌ، لِمَن يريدُ إعادةَ بناءِ النفوسِ المهشّمةِ، والأرواح المهروسة، ومهما كانت درجاتُ تبعثُرها. هذا ما تقترحه الجداريّة، على مَن غادروا نفوسَهم وأرواحَهم مُرغمين. فبتدريجِ الكتلةِ والمساحةِ والألوان، تطغى مِسحةُ الإشراقِ على إيحاءاتِ الجداريّةِ. وأوّلُ الإشراق أنّه يحثُّكَ، برفقٍ، على الذهابِ إلى الوضوحِ والشفافية والصدق، مع النفس والآخر، ومن دون اكتراثٍ لما أصاب الداخِلَ الجُوّانيّ، للنَفسِ، مِن شروخٍ أو جروح.. فالحياةُ جميلةٌ، كما تقترحها الجداريّة، والغُفرانُ رَحبٌ، وترميمُ ما أصابَ النفسَ والروحَ، من أضرارٍ، ممكنٌ. وهكذا، تُرافقُ صاحبَ الجداريّةِ، عن طيبِ نفسٍ وخاطرٍ، نحوَ اقتراحاتٍ أخرى لحياتكَ.. فَيُهدي إليكَ، ومن دون أن يعرفكَ، باقاتٍ من بهجةٍ ومحبّةٍ ومسرّةٍ وأمَل. .. بعضٌ من إحساسِ مَهابةٍ بالجداريّة الخامسةِ، غيرُ مُلزمٍ لأحَد. طُوبى للمدينةِ الطبيّةِ، ولعَسكَرِها، الرائعين والمبدعين، بجماليّات كنوزِ جداريّاتها الخَمس. وطُوبى لفنّان الرُوحِ والنَفسِ مهنّا دُرّة. وطُوبى لأردنّ ما يزالُ يحلمُ بالارتقاءِ والخَلاص.