تسيطر على أسواق العملات الدولية في الوقت الراهن تساؤلات عدة حول ما يحمله المستقبل لها، أكثر مما في جعبة الخبراء والمصرفيين من إجابات. ولا يعود الأمر إلى اضطراب في سوق العملات، بقدر ما يرجعه البعض لعدد من التطورات الاقتصادية من أبرزها استمرار حالة عدم اليقين تجاه وضع الاقتصاد العالمي، ضم صندوق النقد الدولي العملة الصينية اليوان إلى سلة احتياطي العملات المعتمدة عالميا، والتي تضم الدولار واليورو والاسترليني والين، عدم وضوح اتجاهات الناخبين الأمريكيين وتقارب نسب استطلاع الرأي بين كلينتون وترامب، وسط مخاوف حقيقية لدى الكثير من الخبراء من أن يؤدي وصول ترامب إلى سدة السلطة، إلى ردود فعل عنيفة في الأسواق، وقلق شديد من أن تؤدي أطروحاته الاقتصادية والمالية ذات الطابع الصدامي مع الصين إلى نشوب حرب عملات شرسة، خاصة أن اليوان بات يتمتع الآن بوضعية دولية مساوية للدولار، يضاف إلى ذلك أزمة البنوك الأوروبية وانعكاساتها على منطقة اليورو، واقتصادات منطقة اليورو بأكملها. وسط الوضع الراهن في سوق العملات الدولية، يبدو الاسترليني وكأنه خارج السباق الحالي، إذ لم تنطلق بعد المفاوضات البريطانية – الأوروبية للخروج من الاتحاد، ولن تتضح ملامح المشهد الاقتصادي سواء في بريطانيا أو في أوروبا إلا مع انطلاق مارثون المفاوضات، وربما يكون هذا تحديدا السبب في انخفاض قيمة الاسترليني، في أعقاب تصريحات رئيسة الوزراء البريطانية تريزا ماي، بأن حكومتها ستبدأ عملية الانسحاب من الاتحاد الأوروبي نهاية شهر مارس المقبل، إذ أدت التصريحات إلى انخفاض قيمة العملة البريطانية إلى أدنى مستوى لها منذ السادس من حزيران (يونيو) الماضي. والأشد إيلاما للاقتصاد البريطاني أن عددا من صناديق التحوط، تتوقع حاليا المزيد من الانخفاض في قيمة العملة البريطانية مستقبلا. وروج بوتر المحلل المالي في مجموعة إل. دي الاستثمارية يتبنى موقفا سلبيا تجاه مستقبل الاسترليني قائلا لـ"الاقتصادية": "الاسترليني سيواجه وضعا صعبا خلال السنوات الخمس المقبلة، هذا لا يعني أن قيمة العملة ستواصل السير في اتجاه واحد وهو الانخفاض، ولكن سنلاحظ أن مقدار التحسن الذي سيطرأ عليها سيكون ضعيفا وعبر فترات زمنية متباعدة". وحول أسباب ذلك أضاف "هناك مخاوف حقيقية حول أداء الاقتصاد البريطاني مع الخروج من الاتحاد الأوروبي، ولا يزال الغموض يحيط بطبيعة الصفقة التي سيتم التوصل إليها بين الطرفين الأوروبي والبريطاني، ولمعرفة مدى عدم اليقين الحالي بشأن الوضع الاقتصادي المستقبلي، يكفي الإشارة إلى أن تصريحات ماي الأخيرة كانت كفيلة بأن تهبط قيمة الاسترليني – وفقا لمؤشرات برومبرج – إلى أدنى مستوى لها في مواجهة العملات الرئيسة الأخرى منذ بدء عملية جمع بيانات هذا المؤشر عام 2004". وهبط الاسترليني 1 في المائة مقابل العملة الأمريكية إلى 1.2845 دولار وهو أقل مستوى منذ تموز (يوليو) الماضي مقتربا من أدنى مستوى في 31 عاما الذي سجله في السادس من تموز (يوليو) الماضي عند 1.2798 دولار بعد أيام من الاستفتاء على عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوربي في 23 حزيران (يونيو) الماضي. وكان الاسترليني قد انخفض أمام الدولار بنحو 14 في المائة منذ صوت البريطانيون لمصلحة الانسحاب من الاتحاد الأوروبي. ولكن ماذا عن سيد العملات الدولار، وماذا يحمل المستقبل في جعبته من تغيرات للعملة الأمريكية؟ وما تأثير ضم اليوان إلى سلة العملات الدولية على الدولار؟ وكيف يؤدي انعكاس أزمة المصارف الأوروبية وما توجده من وضع اقتصادي مضطرب من تأثير عليه؟ سيمون بال الاستشاري السابق في بنك إنجلترا وأستاذ النظم المصرفية حاليا في جامعة كنت يعلق لـ "الاقتصادية" قائلا: "إذا كنا نتحدث عن العملة الأكثر تفوقا من حيث كم التداول الدولي، فسيظل الدولار يتمتع بهذا الوضع لعدة عقود قادمة، لكن هذا لا يمنع من الإشارة إلى عدد من النقاط المهمة. 1ـ الدولار وبخلاف معظم العملات الدولية الأخرى يتأثر بمجموعة أوسع وأعقد من العوامل عند الحديث عن سعر صرفه المستقبلي، إذ يتأثر بعوامله الداخلية مثل جميع العملات في العالم، لكنه يتأثر أيضا بالتطورات الدولية ككل، بينما تختلف العملات الأخرى بهذا الشأن. 2ـ حالة التقلب الراهن بالنسبة لسعر صرف الدولار تعود في جزء منها إلى صراع داخلي في مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، وهو ما بدا واضحا في انتقاد مرشح الحزب الجمهوري دونالد ترامب لجانيت يلين رئيسة الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي. 3ـ أزمة المصارف الأوروبية وتحديدا إذا ما انهار دويتشه بنك، وهذا احتمال غير مستبعد ستؤثر سلبا بشدة في سعر صرف اليورو وعلى الدولار أيضا ولكن بدرجة أقل. 4ـ ضم اليوان إلى سلة العملات الدولية سيقتطع من نصيب جميع العملات الأخرى، ولكنه سيقتطع من نصيب الدولار بشكل أكبر خاصة بالنسبة للدول التي تحتل الصين مرتبة متقدمة في التبادل التجاري معها. 5 - سيواصل سعر صرف الدولار الارتفاع مستقبلا ولكن لن يحقق قفزات، إذ سيحد وجود اليوان من ذلك. ومن ثم يمكنا القول: إن أكثر العملات قدرة على تحدي الدولار في المستقبل سيكون اليوان الصيني. ومع هذا فإن البعض يرى أن سعر صرف الدولار سيواصل الارتفاع مستقبلا حتى في ظل وجود اليوان. وقالت لـ "الاقتصادية" شيرلي براون المحللة المالية في بورصة لندن: أزمة المصارف الأوروبية ستؤدي حتما إلى انخفاض سعر صرف اليورو، ولن يكون لها عظيم التأثير على قيمة الدولار، الذي أرجح أنه سيواصل الارتفاع، فقضية رفع أسعار الفائدة الأمريكية لا تزال في أولها، وإذ لم ترفع خلال العام الجاري فحتما سيحدث ذلك أوائل العام المقبل، ومن ثم ستواصل العملة الأمريكية تحسنها، أمام عملات الاقتصادات الناشئة وكذلك الاسترليني، إما بالنسبة لليورو فتراجعه نتيجة الأزمة الاقتصادية في منطقة اليورو، سيدفع سعر صرف الدولار إلى الزيادة في مواجهته، بالنسبة لليوان فإن العلاقة مع الدولار تبدو أكثر تعقيدا". وأضاف "ضم العملة الصينية إلى دائرة العملات الدولية سيقتطع نسبيا من الدولار، لكن علينا أن نتذكر أن العملة الصينية لم يتم إصلاحها بعد بشكل كامل، حيث تحدد قيمتها وفقا للعرض والطلب، وهناك درجة ما من درجات التدخل الحكومي في تحديد قيمتها، عندما تتم إزالة ذلك فإن قيمة اليوان ستنخفض في مواجهة الدولار" ويعتقد البعض أن القوة الاقتصادية الأمريكية لا تزال تتمتع بدرجة أعلى من الثبات مقارنة بنظيرتها الصينية، وهو ما يضفي على الدولار وضعية أقوى حتى إن تم ضم الصين إلى سلة العملات الدولية. ولكن ماذا عن سعر صرف العملة الأوروبية الموحدة مستقبلا؟ ربما لا يدل أي مؤشر على القلق الذي ينتاب الدوائر الأوروبية تجاه مستقبل سعر صرف اليورو، أكثر من إقبال البنك المركزي الأوروبي ذاته على زيادة طلبه من الدولار الأمريكي، منذ تصاعد أزمة دويتشه بنك، وهو ما يمكن تفسيره إلى حد كبير بأن الدوائر الأوروبية تفقد تدرجيا الثقة بقدرة اليورو، على مواجهة التحديات الجسام التي تقف أمامه، وفي مقدمتها أزمة المصارف الأوربية. وتواكب زيادة طلب المصرف المركزي الأوروبي على الدولار مع زيادة ممثلة من قبل المستثمرين الأوروبيين في طلب قروض بالدولار بدلا من اليورو، أكثر من أي وقت مضى منذ أزمة اليورو عام 2012. وقال بي جا فرانك الخبير المصرفي لـ"الاقتصادية": "مستقبل سعر صرف اليورو يحيط به كثير من الغموض، لكن في الأغلب سيتراجع في مواجهة نظرائه من العملات الدولية، فمجموعة العوامل الضاغطة عليه تتصاعد، وأبرزها تزايد فقدان الثقة من قبل المستثمرين في قدرته على منافسة العملات الدولية الأخرى، وتكشف التحذيرات الأخيرة لماريو دراجي رئيس البنك المركزي الأوروبي عن أن عدم التوازن الاقتصادي يمكن أن يهدد اقتصادات منطقة اليورو بشكل جذري، إن سياسة الفائدة السلبية لم تحقق أهدافها، بشكل يمكن أن يساعد في تحسين سعر صرف اليورو، وهو ما يشبه تأكيدات رسمية بأن سعر صرف اليورو، سينخفض مستقبلا في مواجهة العملة الأمريكية".