الانقلاب تقوم به فئة قليلة لا تفكر إلا في مصالحها الشخصية، لكنها تملك مفاتيح القرار في المؤسسة العسكرية، وتسمح لها أنظمة القيادة والتحكم التي تستند للانضباط والسمع والطاعة، بتحريك آلاف الضباط والجنود في الاتجاه الذي ترغب فيه، حتى لو تصادم ذلك مع وظيفة الجيش ومصلحة البلاد. هذا بالضبط ما حصل في انقلاب 3 يوليو 2013، فلا يتصور أحد أن 160 ألفاً من الضباط التقوا بأحد المراكز العسكرية وتعاهدوا على القيام بالانقلاب؛ كما لا يتصور أحد أن رسالة شفرية تلقاها الجميع بأن ما يقومون به هو انقلاب على سلطة منتخبة؛ فكل ما تلقوه هو أمر بالتحرك في اتجاه معين بكامل أسلحتهم.. يُضاف لذلك فشل السلطة المنتخبة في التمييز بين قيادة المؤسسة العسكرية المتطلعين لاسترداد ما يعتبرونه دولتهم، وبقية الجيش باعتباره جزءاً من نسيج شعب يتطلع لمستقبل أفضل ويتمنى أن يحيا كبقية الأمم وفق علاقات صحية، فعَكَسَ خطابها تصوراً خاطئاً بأن مجمل الجيش ضد المسار الديمقراطي. بالتأكيد تعطي أنظمة القيادة والسيطرة الانقلابيين ميزةَ توجيهِ القوات للمناطق التي يحددونها دون الإفصاح عن الأهداف الحقيقية للتحرك، لكن الروح النظامية للجيوش أيضاً تسمح بتعطيل الانقلابات عند فضح قيادتها في وقت مناسب، وعندما يرى الجنود أنه يتوجب عليهم الاختيار بين القيادة السياسية الشرعية والقيادة العسكرية المنقلبة. وإذا تجاوزنا ذلك، فإن خلف كل انقلاب علاقات مختلة في رأس السلطة تهيمن فيه المؤسسة العسكرية على المجال المفترض أن تديره سلطة مدنية. فاحتمال الانقلابات على الأنظمة التي تستند لعلاقات صحية بين المدني والعسكري هو منعدم أو ضئيل جداً، بينما هو خطر مستمر في البلدان التي تختل فيها هذه العلاقة. الأمر معقد وبسيط في نفس الوقت، فهو معقد لأن عملية فصل بنيان إحدى المؤسسات عن بنيان الدولة يستدعي عملية تدخل جراحي يأخذ زمناً طويلاً؛ فإذا توافر عامل الزمن أصبح الموضوع بسيطاً، فالقائد العسكري للجيش يمثلها في النظام السياسي للدولة حاملاً لقب وزير الدفاع، ورغم كونه صوتاً معدوداً داخل مجلس الوزراء السياسي، غير أنه الصوت المهيمن عليه والذي ينظر إليه كل أطراف السلطة قبل الإقدام على اتخاذ القرار. حتى أن قائد انقلاب 2013 ذكر بتفاخر أن حسني مبارك كان لا يجرؤ على أن يصلي الجمعة في أحد مساجد الجيش إلا باستئذان قادة القوات المسلحة. مواجهة الحقيقة تقتضي الإقرار بأن السلطة الحقيقية بيد هؤلاء، وأن المؤسسة العسكرية أصبحت منذ زمن بعيد فوق الدولة، وبالتالي فإن استعادة الأوضاع الطبيعية بأن يكون الحق فوق القوة، وأن تصبح الدولة هي رأس كل المؤسسات وأن يتحول الشعب لمصدر السلطة الحقيقي، يحتاج لنضال متواصل مشبع بالوعي، الذي يضمن أن تستعيد الدولة قيادة مؤسساتها، لا أن تنهار الدولة على رأس مؤسساتها. فإذا كانت ثورة يناير فتحت باب إصلاح تلك العلاقة بشكل ضمني ومنحتنا فرصة إعادة صياغتها على أسس صحيحة، وهو ما لم يجرِ استغلاله، فإن انقلاب 3 يوليو 2013 جعل ذلك الإصلاح مطلباً عاماً ومبدئياً؛ إذ يدرك الجميع اليوم أن الميزان في الدولة المصرية مختل، وأن هذا الاختلال أمسى يهدد بقاء الدولة وهو ما لا يسمح بالحفاظ حتى على المؤسسات بما فيها العسكرية، وأن الضرورة تقتضي القبول بتحول تاريخي يعيد الأمور إلى نصابها. ليس المطلوب أن تتخلى القوات المسلحة عن شيء، بل أن يتخلى من يقودونها عن أطماعهم الشخصية، وأن يتركوا العمل السياسي للمدنيين الذين لا يملكون من وسائل القوة إلا آراءهم وأحزابهم وجماعاتهم، والتي مهما بلغت من نفوذ أو من اتساع فإنها تبقى قاصرة على أن تبتلع الدولة أو تستأثر بالمؤسسات أو أن تغير هوية البلاد، أو غير ذلك من الترهات التي ساقها إعلام الانقلاب ليبرر انقلابه. فأول ثمرات إعادة بناء العلاقة بين الشأن المدني والشأن العسكري على قواعد صحية، هو أن يملك اتخاذ القرار السياسي من لا يحوز السلاح، وأن يصبح من يحوز السلاح غير متحكم في القرار السياسي. وبالتالي يبقى مصدر الشرعية الوحيد لصاحب القرار السياسي هو اختيار الشعب له، ويبقى مصدر شرعية من يملك القوة والسلاح هو قيامه بواجب الدفاع عن الوطن ضد أي تدخل خارجي، دون أن يتجاوز ذلك بالتدخل في الشأن الداخلي. وعندما تصل أي دولة لتلك الحالة من التوازن، فإن القرار السياسي يصبح أداة لتحقيق الصالح العام وليس للتماهي مع مصالح شخصية أو فئوية؛ ومن ثم ينفتح الباب أمام تطور الدولة في سلم التنمية التي تراعي الكلفة الاجتماعية لقرارتها. بينما عندما يملك القرار السياسي من يملك القوة العسكرية، فإن متاعب المجتمع وآلامه وحرمانه لا تدخل في اعتباراته عند اتخاذه أي قرار سياسي. البعض يشعر باليأس أن تنتقل مصر لمصاف الدول الصحية، التي تتوزع فيها السلطة والقوة بما يحقق صالح المجتمع، غير أن الأوضاع الحالية لا تدفع لليأس، وإنما إلى العمل بجد مع كل الأطراف الوطنية لإنقاذ الوطن وبناء علاقات صحية بين أطرافه خاصة المدني منها والعسكري. فمن ناحية لم يجر طرح عملية إعادة صياغة العلاقات المدنية العسكرية إلا مع ثورة يناير، ولم يطلع الشعب على الصورة الكاملة لاختلال تلك العلاقة ولأضرار تغول العسكري على المدني إلا مع انقلاب 3 يوليو 2013. ولو تجاوزنا القيادات العليا التي كان يجري اختيارها في عهد مبارك على أساس ولاءاتها لنظامه وخلوها من كل روح نقدية أو معارضة، فإن القيادات الوسيطة حتى الدنيا تؤمن بما يؤمن به غالبية الشعب من ضرورة إصلاح تلك العلاقة بما يحفظ مصلحة الدولة ومؤسستها العسكرية. فالاستئثار بالحكم ليس كله مزايا تعود على المؤسسة العسكرية، بل إن المضار غلبت كل ميزة، فصورة القوات المسلحة التي كانت مشرقة في عقل المواطن المصري أمست مختلطة مع صورة ذلك اللواء الذي يسرق السولار أو يروج لاختراع مثير للسخرية أو ذلك الضابط الذي يدير مصنعاً للحلوى والعسكري الذي يقف على عربة خضار. وهو ما يؤدي لفقدان المؤسسة العسكرية للهيبة وللقيمة بعد فقدانها شرف التفرغ للدفاع عن الوطن. وثانياً، فإن المؤسسة العسكرية تصبح محلا للانتقاد باعتبارها هي من تحكم، بل وتصبح محلاً لغضب الشعب لفشلها في إدارة الدولة، كما هو الحاصل حاليا ويتفجر بصورة مخجلة في الكوارث كغرق مركب الهجرة أمام شواطئ رشيد. ولا يستهين بذلك إلا مغامر بمصير الدولة المصرية؛ لأنه يعتقد أن الغضب الشعبي سيظل حبيس الخوف من السلاح المُشرَع في وجوه المصريين؛ وهو ما عبر عنه قائد الانقلاب صراحة بعد تلك الكارثة بقوله "الجيش مستعد للانتشار خلال 6 ساعات لمواجهة أي فوضى" وهو يقصد ما يمكن أن يتمخض عنه الغضب الشعبي. ويقتضي الحفاظ على الدولة وعلى الجيش وعلى مؤسسات الوطن أن يعمل العقلاء على استبعاد الجيش من معادلة الحكم ومن كل دور سياسي؛ بل ومن الأنشطة الاقتصادية التي تجعله في مرمى الغضب الشعبي؛ فرغم أن الجيش كان له نشاط اقتصادي مهم في عهد مبارك إلا أنه لم ينزل لهذا المستوى المتدني والذي جعله مادة للسخرية ومادة للغضب في آن واحد. لا يهدف مطلب عودة الجيش للثكنات إلى إضعاف دور القوات المسلحة كدرع للوطن، بل إلى استرداد هذا الدور، فالدور الذي دُفعت للقيام به منذ 3 يوليو 2013 جعلها حصنا لسلطة مغامرة وفاشلة تحاول أن تحتمي بالجيش من غضب الشعب أو بأقل تقدير تستخدمه لردع أي مطالب للإصلاح أو أي غضب من الفشل. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.