د. صدفة محمد محمود لم تكد تمر ثلاثة أسابيع على عزل الرئيسة البرازيلية ديلما روسيف (حزب العمال) حتى تلقى تيار اليسار ضربة أخرى موجعة. إذ قرر الادعاء العام إحالة الرئيس البرازيلي الأسبق لولا دا سيلفا (2002-2010) للمحاكمة بشأن اتهامات بإخفاء أصول وغسل أموال في فضيحة الفساد الأشهر في تاريخ البلاد في شركة النفط الحكومية بتروبراس. وفقاً لادعاءات المحققين فإن دا سيلفا قد تلقى رشى تبلغ قيمتها 1.11 مليون دولار ذات صلة بالشركة. فضلاً عن امتلاكه منزلاً ريفياً وشقة من ثلاثة طوابق على شاطئ المحيط الأطلسي من أموال حصل عليها من شركات البناء الكبرى، المرتبطة بشركة بتروبراس، بالإضافة إلى قيامه بأعمال تصليح وتجديد مفروشات للشقة، بمبلغ لا تقلّ قيمته عن 264 ألف دولار، حصل عليها من دون أي مسوّغ قانوني من شركة بتروبراس. وسبق أن داهمت الشرطة منزل الرئيس الأسبق، وقامت باقتياده من منزله لاستجوابه بمركز الشرطة في مارس/آذار الماضي، كما علق القضاء تعيين دا سيلفا رئيساً لديوان لحكومة الرئيسة المعزولة ديلما روسيف على خلفية الاتهامات الموجهة له في فضيحة بتروبراس. كذلك وجهت الاتهامات للرئيس اليساري الأسبق في يوليو الماضي بإعاقة التحقيقات في فضيحة بتروبراس، كما أكد القاضي سيرجيو مورو، المشرف على اتهامات الفساد في بتروبراس، أن ثمة أدلة كافية على مسؤولية الرئيس الأسبق عن فضيحة الفساد ببتروبراس. بل وصلت الاتهامات إلى وصف القاضي ديلتان دالانيول دا سيلفا بأنه القائد الأعلى لشبكة الفساد في بتروبراس والعقل المدبر لعمليات الكسب غير المشروع في الشركة، وذلك بهدف المحافظة على سيطرة حزبه (العمال) على الحياة السياسية البرازيلية، وذلك من دون أن يقدم أدلة مقنعة، الأمر الذي تسبب في موجة انتقادات عارمة من جانب الرئيس الأسبق، وكذلك بين أوساط تيار اليمين الحاكم. كذلك وجهت الاتهامات إلى زوجة دا سيلفا بالإضافة إلى ستة أشخاص آخرين من بينهم وزير المالية السابق في حكومات دا سيلفا وديلما روسيف. ومن جانبه، وصف دا سيلفا الاتهامات الموجهة إليه بأنها مهزلة كبرى، وكذبة ضخمة، وإن هناك دوافع سياسية تحرك ذلك الاتهام. واستطرد قائلاً: أثق بالقضاء ولدينا محامون جيدون، سنكافح لنرى ما سينتج عن ذلك. كذلك أكد دا سيلفا أن الاتهامات الموجهة إليه إنما تستهدف بالأساس الحيلولة دون ترشحه في الانتخابات الرئاسية المقبلة في عام 2018، خاصة أن معظم نتائج استطلاعات الرأي العام تكشف عن أنه لا يزال المرشح الأكثر شعبية في الانتخابات الرئاسية المقبلة بنسبة 22 في المئة من أصوات الناخبين المحتملين، وفقاً لنتائج استطلاع أجرته مؤسسة داتافولها في يوليو/تموز الماضي. ووفقاً للإجراءات القانونية المعروفة، فإنه إذا تمت إدانة الرئيس الأسبق جنائياً فسيحظر عليه الترشح لأي منصب عام على مدار السنوات الثماني المقبلة، منهياً بذلك أي فرص لحزب العمل الذي يتزعمه لاستعادة السلطة. وتأتي إحالة دا سيلفا للمحاكمة في ظل توقيت غاية في الصعوبة بالنسبة لحزب العمال وتيار اليسار عموماً، وذلك في أعقاب عزل ديلما روسيف من الرئاسة وتراجع شعبية الحزب إلى أدنى مستوياتها. وفي ظل تصاعد المخاوف من أن يمنى الحزب بهزيمة تاريخية في الانتخابات البلدية، المقرر إجراؤها الشهر المقبل، ما قد يؤدي إلى الإطاحة بحزب العمال نهائياً من الحياة السياسية في البرازيل بعد أن فرض هيمنته عليها طوال ال 14 عاماً الماضية. وعلى الرغم من عدم القدرة على الجزم بمدى صحة الاتهامات الموجهة لدا سيلفا، خاصة أن العديد من الخبراء القانونيين يرون أن هناك تسييساً واضحاً للقضية؛ فالاتهامات ضد الرئيس الأسبق محدودة للغاية وتشمل مبالغ صغيرة نسبياً مقارنة بمليارات الدولارات التي تم الكشف عن اختلاسها أو تبييضها ضمن فضيحة بتروبراس. وقد أصر دا سيلفا لعدة أشهر على أن الشقة التي تشير الاتهامات إلى امتلاكه لها لا تخضع لملكيته أو لزوجته بل هي ملك لإحدى شركات البناء، كما أكد أن التهم الموجهة إليه ما هي إلا جزء من مخطط اليمين لإنهاء حياته السياسية وتشويه تاريخه الطويل باعتباره نصير الفقراء في البرازيل. ومما لا شك فيه أن محاكمة دا سيلفا أو اعتقاله سوف تثير موجة عارمة من الغضب بين قطاعات عريضة من البرازيليين، لما يحظى به الرئيس الأسبق من شعبية عارمة ولما يثار من احتمالات أن تكون هذه القضية بمثابة محاكمة سياسية لدا سيلفا. وفي هذا الإطار، أكد القاضي سيرجيو مورو، أن هذه خطوة في عملية متعددة المراحل، وأن الحكم بقبول الاتهامات الموجهة لدا سيلفا لا تعني الحكم قطعياً بوجود مسؤولية جنائية ضده. ويأتي قبول القاضي سيرجيو مورو، للاتهامات الموجهة لدا سيلفا بالفساد ليمهد الطريق لمحاكمة واحدة من أكثر الشخصيات السياسية نفوذاً في أمريكا اللاتينية، كما أن إحالة الرئيس البرازيلي الأسبق للمحاكمة تأتي في ظل نقاش وطني واسع النطاق حول ما إذا كانت النيابة العامة قد تجاوزت في جهودها الرامية إلى محاكمة دا سيلفا، خاصة أنها لم تنجح حتى الآن في تقديم أدلة دامغة لادعاءاتها ضده. كما أن قيام القاضي سيرجيو مورو، بالكشف عن المكالمات الهاتفية الشخصية لدا سيلفا يعكس التحيز الواضح ضده، والمحاولات المضنية لمنعه من الترشح مجدداً للرئاسة. وعلى الرغم مما قد يقال عن صحة الادعاءات بتحيز النيابة العامة ضد دا سيلفا ومن قبله روسيف، فإنه قد يكون من المنطقي أيضا القول إن جهود الأجهزة القضائية والشرطية البرازيلية تكشف عن رغبة حقيقية في اجتثاث الفساد من جذوره، وهناك عدة أدلة على ذلك من بينها قرار المحكمة العليا إيقاف رئيس مجلس النواب إدواردو كونا، بناء على طلب من النائب العام، لاتهامه بمحاولة عرقلة سير تحقيقات متعلقة بالفساد ضده وضد أعضاء في المجلس، فضلاً عن توجيه الاتهامات له بالتهرب الضريبي لمبلغ 15.5 مليون دولار في إطار فضيحة بتروبراس. والأهم من هذه الخطوة، قرار المحكمة العليا البرازيلية الأسبوع الماضي بفتح تحقيق أولي حول مزاعم بضلوع رئيس البلاد ميشال تامر في نفس فضيحة الفساد. ويتركز التحقيق حول تامر في طلبه الحصول على دعم مالي لحزبه الحركة الديمقراطية البرازيلية في الانتخابات الرئاسية لعام 2014، من شركة البناء العامة العملاقة أوديبريشت. ويُنتظر أن يقرر النائب العام في وقت لاحق، ما إذا كان سيتم فتح تحقيق رسمي مع الرئيس من عدمه. ومن المتوقع أن تكشف الأيام المقبلة عما إذا كانت الأجهزة المعنية بمكافحة الفساد جادة في الجهود التي تبذلها، أم أن جهودها تلك موجهة ضد رموز تيار اليسار فحسب.