إن متطلبات ودروب الحياة اليوم ليست كتلك التي نشأ عليها آباؤنا منذ نصف عقدٍ من الزمن أو يزيد، ولم تبدُ حينها الحياة أكثر تعقيداً كتلك التي نحياها اليوم، بل ويلزمها تفكيرٌ عميق بما يوائم الفرد، ويناسب طموحاته، وسلسلة ميوله. لن أكون مُخطئاً إن قلت إنَّ كثيراً من الآباء اليوم، يريدون أبناءهم نسخةً كربونية عن حياتهم، وميولهم، وتجارب حياتهم الماضية، متناسين الدور - الذي لا يجب أن يهمش - لمتطلبات الحياة الواقعية، التي يحياها أبناؤهم في ظل صراع الأفكار، وعجلة التكنولوجيا، التي تورث على مدار اللحظة أفكاراً وطرق حياة تفرض على الشخص أن يقرأها بعمقٍ وروية، وأن يتصرف بعقله وفكره دون عاطفته ورغبات الآخرين. لا شك أن من أعظم نعم الله علينا، أن منَّ علينا بأهلٍ كانوا وما زالوا لنا سنداً، ومن الجميل الإشادة بفضلهم، واللجوء إليهم، والشعور بالحب وسط أنفاسِهم، فهُم لنا خير عونٍ يشدد به الأزر، ورضاهم هو مطلب لمن يتطلع إلى جنةٍ عرضها السماوات والأرض. نصائح الأهل مُجدية في كثير من الأحيان، ولها دورٌ عظيم في نقل خبراتهم وإضافتها إلى حياتك، ولكن الأجدر بالأهل أن يغلفوا نصائحهم بلطيف الرفق، وإنارة بصيرة أبنائهم لما يرونه الصواب، من غير أن يجبروهم على شيء، طالما كان اختيارهم مطوقاً بكثير من الوعي، ومستبصراً بمتطلبات الروح وطموح العقل. ففي مسيرة حياتنا تواجهنا مفترقات طرقٍ حاسمة، يلزمها قرارات مصيرية لا بد أن يرسو قرار اختيارها عليك وحدك فقط، هي: التخصص الجامعي، والوظيفة، والزوجة. 1. وجاهةٌ مؤقتة، وفقدانٌ للبوصلة لا شك أنّ الأهل يسعدون إذا ما حصدَ أبناؤهم مراتب مرموقة في مدارسهم الثانوية قُبيل الالتحاق بالجامعات، لتكون هذه المرتبة بمثابة منصة انطلاق إلى مرحلة هي أكثر منها أهمية وحساسية، نظراً لكونها بداية التعبيد لطريقٍ سينسج الطالب من خلاله طموحاته ويسخِّر إبداعاته، لتتجمع كلها في بوتقةٍ يشدو منها عبق التميز. ولكنّ الأمر السلبي هو محو دور الطالب، وعدم الاكتراث له إن كان له دور حينها - والتسلط بقرارٍ يراه ذووه الأنسب لابنهم، ولرغباتهم الجامحة بأن يكون طبيباً أو مهندساً أو صاحب تخصص يمنحه مكانةً اجتماعية، متناسين رغبات ابنهم ومخططاته. الأحرى بنا في هذه المرحلة أن نزرع في أبنائنا القدرة على تحديد مسار حياتهم وتعزيز قدراتهم على إدارة ذواتهم، مع توجيه مُحنك بما لا يهمش شخصياتهم، ومنحهم الدور الأساسي في قيادة سفينة حياتهم. فالطالب الذي يسعى للتميز يهتم بجمع معلومات كافية وشاملة حول التخصص الذي يرغب به، ويفكر في مستقبله الدراسي بشكل مستقل دون أي تأثر بالآخرين. فإذا استطاع تجاوز هذه المرحلة من حسن اختيار التخصص، فإنه يكون بذلك قد اجتاز نصف الطريق، وسيغدو قادراً على أن يتكيف مع بيئته الدراسية ومع نفسه قبل كل شيء، الأمر الذي ينعكس إيجاباً على شعوره بالسعادة والرضا، وقدرته على تحقيق ذاته. كذلك ينجيه من هلاك الاضطراب في تغيير تخصصه بعد أن يكون قضى فيه شهوراً أو سنوات، ناهيك عن حالات الفشل والإحباط الناتجة عن سوء الاختيار. 2. عادات غابرة لم تعد فاطمة ابنة خَالك هي الخيار الأنسب والوحيد لتسلك طريق المودة والرحمة، وكذلك لم يعد حسن الابن الوحيد والمدلل لعمّتك هو فارس الأحلام، وليست نسب الطلاق العالية إلا حصاد عقول محصورة لأهالي غدت الفكرة عندهم غير مكتملة حول الحكمة من الزواج. فتغريب النكاح يضفي على العقول نضجاً ووعياً، وينشئ سداً لكثيرٍ من الخلافات العابرة، ناهيك عن كونه ينشئ نسلاً قوياً، وليس كلام الإمام الشافعي عنّا ببعيد، إذ قال: "ليس من قوم لا يخرجون نساءهم إلى رجال غيرهم، ولا يخرجون رجالهم إلى نساء غيرهم إلا جاء أولادهم حمقى". اختر يا صديقي من تُكمل معك مسيرة عطائك في الحياة بانسدالها ووعورتها، وليس بمن تحتاج أن تَرجع معها لسني تصوغ فيها تفاهمكما، وتحاول تقريب رغباتكما غير المتجانسة.. اظفر بمن تعينك.. لا بمن تعين الأيام عليك، بمن تتفهم ظروفك.. لا بمن تثقل الظروف عليك، بمن يشدد الله بها أزرك، لا بمن تقضي حياتك راجياً لها أن تُحسن شراكتها لحياتك. الحياة الزوجية مقدسة، إن لم تقم أركانها على أسس صحيحة واعية، فستبقى واهية البناء، يعتري مسارها الضمور، واعوجاج الخطى، وضباب البوصلة. فالزوجة ليست تلك المرأة التي ستقضي معها رغباتك المجبولة، وتعد لك الطعام الشهي، وتعتني ببيتك وأولادك فحسب، بل إن الزوجة شريكة حياتك، والشراكة تفترض أنك في مشروع، هو المشروع الأهم على الإطلاق. فإن لم تحسن اختيار شريكك الذي سيتقاسم معك الربح والخسارة ويسدي لك الرأي والنصيحة، فاحكم على نفسك أن تفضَّ شراكته قبل بلوغ الغاية، وفي أحسن الحالات قد تضطر لإكماله مكرهاً، وقد فلتت من يديك زمام الراحلة، وحيل بينك وبين ما رسمته من وردي الحياة قبل الولوج في مشروعك هذا. أنت من ستتزوج وليس أهلك، أنت من ستتقاسم دقائق حياتك مع تلك الزوجة وليس من أجبرك على الاختيار، لن يكون العبء ملقى على أي منهم إن فسد الاختيار، وانقطع الرجاء. قد تَسعد للقشور الزاهية المهداة لك أول حيازتك إياها، ولكن حتماً ستقع في شراك المشقة إن اكتشفت أن الباطن ليس هو طموحك، ولا الجدير بأن يصعد معك سلم الحياة حتى تبلغا القمة معاً، لا تجعل تفكيرك سطحياً، ولا تجعل العادات تسوقك بزمام أهليها إلى حيث أرادوا هم.. وليس أنت! 3. لا تكن آلة إن نجاحك في الحياة يفترض أنك تعمل في مجال أنت من اخترته، ولم يُختَر لك مسبقاً، يتوافق ورغباتك وطموحك، أنت وليس أحداً سواك. وغالباً ما نرى أن الأهل يفضلون لابنهم وظيفة محددة الأركان والإمكانيات، كونها - حسب زعمهم - فيها نوعٌ من الأمان الوظيفي والاستقرار المالي، غير مكترثين لجدوى المشاريع البدائية الصغيرة والتي توجد له فرصةً من العدم. قد تبدو في بدايتها هشة ضعيفة، ولكنها بالإصرار والعزيمة ستغدو صرحاً عظيماً، بالإضافة إلى ذلك، فإنها ستجعلك مفعماً بالعزيمة والمثابرة، وتضيف إلى حياتك الرضا والسعادة، فعادةً ما يشعر الأشخاص بذلك إذا ما أحرزوا تقدماً تجاه شيء يهتمون بفعله. فعندما تجرب شيئاً جديداً لم يسبق تجربته قبلاً، أو تبدأ مشروعاً جديداً في العمل، أو تحاول إنشاء شركة جديدة من العدم فإنك ستواجه حتماً - الكثير من الصعاب، وفي المقابل ستضفي على حياتك خبرةً وقدرة على إدارة الأزمات وترتيب الأولويات. خلاصة القول: إن مراحل اختيار التخصص والزوجة والوظيفة لها أثر كبير في شخصية الفرد وفي حياته الحاضرة والمستقبلية، فهي مراحل مصيرية حاسمة تحدد مستقبله وترسم له معالم النجاح والسعادة، أو الفشل والانتكاس في الحياة. فقدراتك وميولك لا أحد يعرفها أكثر منك، والاختيار الخاطئ يسبب لك ضياع الجهد والوقت ويرديك في نفقٍ مظلم، لذلك احرص على أن تختار بنفسك بعد اطلاع ووعي وتفكير عميق، ودون أي ضغوط أو تأثيرات خارجية من أهلٍ أو أقارب، ولا تترد في قول لا لكل اقتراح لا يتماشى مع رغباتك وطموحاتك. ونجاحك في إدارة هذه الثلاثية سينعكس على جميع أمور حياتك الأخرى.. لذا كُنْ أنت. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.