يُنسب إلى الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، قوله: «لست بالخِبّ، ولا الخِب يخدعني»، والخِبّ هو الماكر الخدّاع. وربما تكون هذه المقولة هي أبلغ الردود على مناورة خبيثة لجماعة «الإخوان المسلمين» الأسبوع قبل الماضي، تمثلت ببيان لـ «حزب التجمع اليمني للإصلاح» أصدره زعيمه محمد اليدومي، وهو يحاول فيه التبرؤ من الجماعة. وعلى مبدأ «يكاد المريب يقول خذوني»، يؤكد الحزب بكل ما يمكنه من وسائل التأكيد أن لا صلة بينه وبين الجماعة الإرهابية التي صار الانتماء إليها تهمة تصم من يتورطون فيها. والبيان الذي أصدره الحزب في 13 أيلول (سبتمبر) 2016، لمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسه، بدا أنه مُكرَّس كليةً لإعلان «البراءة»، وأنه ليس هناك من قضية أخرى تمثل هاجساً له. ويبدو ذلك منذ الفقرة الأولى التي تدعي أن «هناك من يجهل الأسس والمبادئ التي أنشئ الإصلاح لأجلها»، وصولاً إلى العبارة الآتية: «ويؤكد التجمع اليمني للإصلاح ومن خلال نظامه الأساسي وبرنامجه السياسي ولوائحه الداخلية، وبهذه المناسبة وبمنتهى الوضوح والشفافية وقطعاً لأي تأويلات أو إشاعات، عدم وجود أي علاقات تنظيمية أو سياسية تربطه بالتنظيم الدولي للإخوان المسلمين، ولا سيما أن أولويات الإصلاح، باعتباره حزباً سياسياً، هي أولويات وطنية وكل جهوده تنصَبّ مع شركائه من القوى السياسية اليمنية في إخراج اليمن من محنته الحالية وفي النهوض باليمن من وهدته واستعادة مسيرته السياسية». من بين الأمور التي توقفت عندها كثيراً أن الفقرة السابقة تحدثت عن «التنظيم الدولي للإخوان المسلمين» وليس «جماعة الإخوان المسلمين». وعلى رغم أن الفارق قد يكون بسيطاً، فإن اختيار «التنظيم الدولي» لا يخلو من دلالة تتعلق بمحمد اليدومي، رئيس الهيئة العليا للحزب، بصورة خاصة. ففي كتاب «من داخل الإخوان المسلمين» الذي يسجل ذكريات يوسف ندا مسؤول العلاقات الدولية للجماعة والقطب البارز في التنظيم (صدرت ترجمة عربية للأصل الإنكليزي في العام 2012) نجد إشارات عدة إلى محمد اليدومي. إذ يقول يوسف ندا في مقدمة كتابه: «أنا لم أحترف الكتابة ولم يكن في حياتي متسع لأكتب، وكل ما استطعت أن أكتبه كان في تسعينات القرن الماضي، وهو ثلاثة كتب، منها اثنان كتبا بتوجيه من زعيمي اليمن الصامدين الصالحين أبو مصعب محمد اليدومي، وياسين عبدالعزيز». ويقول دوجلاس تومسون، المؤلف الذي سجل ذكريات يوسف ندا في الكتاب: «أجرى يوسف ندا دراسة عميقة جيوسياسية وتاريخية معززة بالوثائق والخرائط والمراسلات والاتفاقات وأعطاها محمد اليدومي لعبدالله الأحمر ليقدمها لعلي عبدالله صالح الذي استعملها في المفاوضات الطويلة، لكنها نجحت في تلافي الصراع المسلح وحافظت على مصالح اليمن. واجتمع الرئيس علي عبدالله صالح مع يوسف ندا وشكره، وبعد ذلك التقى الرئيس مع مسؤول الإخوان في اليمن محمد اليدومي، وفي حديث خاص دار بينهما سأله الرئيس: ما هي مطالب السيد يوسف ندا؟ وعندما نُقل ذلك إلى يوسف ندا، قال: هذه هدية من الإخوان المسلمين». صدر الكتاب المذكور قبل خمس سنوات تقريباً، ولم يعترض محمد اليدومي بكلمة على ما جاء فيه، والسبب في ذلك أنه تصور وقتذاك أن زمان «الإخوان المسلمين» قد أقبل، وأن السلطة دنت منهم في مصر وفي بلدان عربية أخرى، لكنه اليوم يُعلن تبرؤاً كاذباً من «الإخوان» على وقع المأزق الذي وجدوا أنفسهم فيه عموماً، والمأزق الذي وصلوا إليه في اليمن خصوصاً، والأدوار المشبوهة التي يلعبونها منذ سنوات، وسلوكهم المريب منذ انطلاق عملية «عاصفة الحزم»، وعلاقتهم بالجماعات الإرهابية التي يسعون إلى استثمار تحركاتها ورقة للمساومة، وذلك لإحراز مكاسب ضيقة على حساب مصلحة اليمن وشعبه. إن هذا التبرؤ «التكتيكي» ذاته ممارسة «إخوانية» دارجة، لا تفتأ الجماعة وأذرعها الكثيرة تمارسها منذ بدأت تسللها إلى الحياة السياسية بعناوين يختلف باطنها عن ظاهرها. ومارست الجماعة التبرؤ الزائف من أذرع تابعة، بالقدر نفسه الذي تبرأت فيه الفروع من الأصل حينما كانت المصلحة تقتضي ذلك. ففي مرحلة مبكرة من حياتها، تبرأت الجماعة وزعيمها حسن البنا تبرؤاً كاذباً من «التنظيم الخاص»، وقال عن أفراده إنهم «ليسوا إخواناً وليسوا مسلمين». وهذا التبرؤ المبكِّر على لسان البنا جاء في وقت ضاقت فيه الحلقة عليه شخصياً وعلى جماعته، وكانت حياته مهددة بفعل ما تورط فيه أعضاء النظام الخاص من جرائم كانت بذوراً للإرهاب الذي اعتمدته الجماعة أسلوباً منذ بداياتها الأولى، وكان أبرزها اغتيال القاضي المصري أحمد الخازندار، بسبب حكم أصدره ضد أحد أعضاء «الإخوان»، ثم اغتيال رئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي بعد أن أصدر أمراً بحل الجماعة بسبب أعمالها الإرهابية. تبرؤ تكتيكي مماثل حدث من جانب «إخوان» الكويت من الجماعة الأم التي اتخذت موقفاً مخزياً ساندت فيه غزو صدام حسين للكويت، وموقف كهذا كان جديراً بأن يُنهي إلى الأبد علاقة «إخوان» الكويت بالجماعة، بحكم فداحة جرمها في موقف مصيري، لكن «إخوان» الكويت سرعان ما عادوا إلى سيرتهم الأولى وجاهروا باستعادة علاقاتهم بالتنظيم الأم بأقوى مما كانت عليه من قبل. ولم يكن التبرؤ التكتيكي من جانب «إخوان» الكويت إلا «تقية» موقتة فرضها موقف كويتي وخليجي وعربي غاضب مما كشفه غزو الكويت من لؤم الجماعة الأم وانتهازيتها ونياتها الخبيثة. وأكد «إخوان» الكويت بعودتهم إلى الدوران في فلك الجماعة أن انتماءهم إليها وولاءهم لها يتجاوز انتماءهم إلى وطنهم وولاءهم له. للتبرؤ طرق أخرى لدى أذرع «الإخوان المسلمين»، تصل إلى حد إعلان بعضها حل نفسه كما حدث في قطر، لكن الجماعة في الحقيقة انتشرت انتشاراً سرطانياً في الإعلام وتمركزت في مفاصل سياسية واقتصادية وأكاديمية، وفي المؤسسات الدينية والدعوية ومؤسسات المجتمع المدني، لتمارس نفوذاً تخريبياً في مرحلة حافلة بالمآزق ومفتوحة على أنواع شتى من المخاطر. إن النماذج السابقة وغيرها، مما لا تتسع له هذه المقالة، تؤكد أن تبرؤ حزب الإصلاح وزعيمه محمد اليدومي من الانتماء إلى «الإخوان المسلمين» ليس إلا حلقة في مسلسل الخداع والكذب، كما تنطوي في الوقت نفسه على إشارة إلى أن الجماعة تشعر بالأرض تميد من تحت أقدامها، وأن كل مؤامراتها في اليمن باءت بالفشل على رغم كل الأقنعة التي تسترت وراءها. إن دحر الانقلابيين الحوثيين وعلي عبدالله صالح هدف يجب تحقيقه بسرعة، لكن دور «التجمع اليمني للإصلاح» تخريبي لا يقل في خطره عن الخطر الحوثي، فـ «الإصلاح» جزء من تكتل يسعى إلى زعزعة المنطقة ونشر الفوضى فيها. وتصنيف «الإخوان المسلمين» جماعة إرهابية في الإمارات والمملكة العربية السعودية ومصر ودول عربية أخرى، لم يأت إلا بعد أن تأكد خطر الجماعة على أمن الدول العربية واستقرارها، وممارساتها التي تهدف إلى نشر الاضطراب والفوضى، ومشاركتها بالتخطيط والتنفيذ والتمويل في جرائم إرهابية في كثير من البلدان. وإذا كان خطر الحوثيين وصالح كبيراً، فإن خطر الإرهاب وجماعاته كبير أيضاً. ومحاولات «تغيير الجلد» هذه لن تخدعنا عن حقيقة «الإصلاح» التي يحاول عبثاً إخفاءها.