كل يوم وطني؛ ووطني ومن فيه من إنسان وطني بخير وسلام وعزة وفخر. ستة وثمانون عامًا ونحن نحتفل بذكرى تأسيس المملكة، وبفرحة توحيد القلوب على تراب وطني واحد، يجمعها على الحب والعمل، من أجل بقاء هذا الكيان الكبير؛ كبيرًا وعزيزًا في خير وهناء ورخاء عيش. شكرًا لك أيها الأب الكبير المؤسس (جلالة الملك عبد العزيز آل سعود). إنك بحق؛ الأب الوطني الأول لأكثر من جيل على مدى ثمانية عقود ونيف؛ بدأت بيوم التأسيس المجيد في 23 سبتمبر من عام 1932م. لم يبالغ حكماء وفلاسفة العالم الذين قالوا: بأن صلتهم بأوطانهم كصلتهم بأمهاتهم تمامًا. الوطن هو الأم الحنون، والأرض الخصبة التي يتكون فيها ابنها، فيولد منها، ويعيش عليها، ويموت عليها، ويدفن فيها. ما أعظم هذه الصلة المقدسة التي تجمع بين الأبناء والأمهات.. بين المواطن وتربة وطنه، حيث يعيش عليها معززًا مكرمًا مرفوع الرأس، ويموت عليها ومن أجلها وفيًا كريمًا مبجلًا. يتفاخر الناس كبارًا وصغارًا في كل أرجاء الدنيا بأوطانهم، فيتغنى شعراؤهم، ويكتب كُتابهم، ويؤرخ مؤرخوهم، ولا يتورع الكل عن فداء وطنه، وتقديم روحه رخيصة من أجل سلامة وطنه، وأمن مواطنيه. تأخذني مشاهد بعض مغتربي الدول الذين لا تكاد تطأ أقدامهم أراضي موانئ بلادهم وأوطانهم عائدين؛ حتى ينكبوا على أرضها راكعين ساجدين باكين، مقبلين تربتها الطاهرة.. وهذه فطرة الله التي فطر الناس عليها منذ أن خلقهم، لأن الشعور بالأمان؛ منبعه أمن المكان، بل لا يتحقق أمن الإنسان إذا لم يتحقق أمن المكان. وهكذا تظل العلاقة بين الوطن وأبنائه، علاقة انتماء ونماء ووفاء. من حق كل مواطن أن يفخر بوطنه، وأن يتغنى بأمجاده، ولكن من حق كل وطن على مواطنيه، أن تسبق أفعالهم أقوالهم، وأن يترجموا حبهم لوطنهم إلى أعمال تبني وتحمي في الوقت نفسه. الوطنية الحقيقية التي تملأ نفوس المواطنين نقاءً وصفاءً ليست أقوالًا مجردة، ولا تظاهرات فرحية فقط. الوطنية الحقة هي التي تعمل ولا تتكلم، وبذلك تجسد النموذج الجيد في حب الوطن ورعايته وحمايته للأجيال القادمة. يبادلنا وطننا حبًا بحب؛ إذا أخلصنا له العمل من أجل بقائه ونمائه وعزته وكرامته. الوطن لا يحب من يقول شيئًا ويفعل شيئًا آخر. لا يحترم العظاميين الماضويين. الوطن يحترم من أبنائه العصاميين الجادين البانين. من يحب وطنه بحق؛ عليه أن يلتزم بالآداب العامة، وأن يحترم الأنظمة حتى لو كانت ضد رغباته. عليه أن يحافظ على نظافة بلده، وسمعة بلده. عليه أن يكون عينًا ساهرة تدعم عيون الوطن الساهرة من رجال الأمن، الذين يسهرون على أمنه وراحته. إن كل ما تملك وما بين يديك من مال وممتلكات ومباهج؛ لا يساوي شيئًا مقابل حفنة من تراب وطنك الذي هو الأصل والأساس في هذا كله. هذه قصة لطيفة؛ لكنها بليغة، وتختزل هذه الصورة في بيان قيمة الوطن، وهي تروى عادة للنشء الذي يجب أن يُسقى حب وطنه كما يُسقى حليب أمه. يُحكى أنَّ رجلاً هرِماً، اشتدَّ به المرضُ، فدعا ولديه وقال لهما: يا ولديَّ.. لقد تركتُ لكما أرضاً، وهذا الكيسَ من الذهبِ، فَلْيخترْ كلٌّ منكما ما يشاء. قالَ الولدُ الأصغر: أنا آخذُ الذهب. وقالَ الولدُ الأكبر: وأنا آخذُ الأرض. وماتَ الأبُ بعد أيام، فحزن الولدان كثيراً، ثم أخذ كلُّ واحدٍ منهما نصيبه من ثروة أبيه، وبدأ الولدُ الأكبر يعملُ في الأرض. يبذرُ في ترابها القمح، فتعطيه كلُّ حبّةٍ سنبلةً، في كلِّ سنبلةٍ مئةُ حبة، وبعدما يحصدُ القمحَ؛ يزرعُ موسماً آخر، وثروته تزدادُ يوماً بعد يوم. أمّا الولدُ الأصغر، فقد أخذَ ينفقُ من الذهب شيئاً بعد شيء، والذهبُ ينقصُ يوماً بعد يوم. وذاتَ مرّةٍ؛ فتحَ الكيسَ، فوجدهُ فارغاً..! ذهب إلى أخيه وقال له وهو محزون: لقد نفدَ الذهبُ الذي أخذتهُ. رد عليه أخوه قائلًا: أمَّا ما أخذتُه أنا فلا ينفدُ أبدًا. فقال: وهل أخذْتَ غيرَ أرضٍ مملوءةٍ بالتراب..؟! عندها.. أخرجَ الأخُ الأكبرُ، كيساً من الذهب وقال: ترابُ الأرضِ أعطاني هذا الذهب. قال الأخُ الأصغر ساخرًا: وهل يعطي الترابُ ذهباً..؟! غضبَ أخوه وقال: الخبزُ الذي تأكُلهُ من تراب الأرض، والثوبُ الذي تلبسُهُ من تراب الأرض. خجل الأخُ الأصغر، وتابعَ الأكبرُ كلامه: والثمارُ الحلوةُ من ترابِ الأرض، والأزهارُ العاطرةُ من تراب الأرض، ودماءُ عروقك من ترابِ الأرض. قال الأخ الأصغر: ما أكثرَ غبائي وجهلي..! رد عليه أخوه وهو يحاول مواساته: لا تحزن يا أخي..! قال: كيف لا أحزنُ وقد أضعْتُ كل شيء..؟! فرد عليه قائلًا: إذا ذهبَ الذهبُ فالأرضُ باقية. الأرضُ لك، وأنتَ أوْلى بها. دَعْكَ من هذا الكلام، وهيّا معي إلى الأرض. ذهبَ الأخوانِ إلى الأرض، فوجدا القطنَ الأبيضَ يميلُ فوقها ويلمع. امتلأ الأخوان فرحاً، وهتفَ الأخُ الأصغرُ: يا أرضَنا الكريمةْ. في هذه المناسبة العزيزة على أنفسنا؛ نتذكر بكل فخر واعتزاز، التضحيات العظيمة التي بذلها مؤسس المملكة وموحد كيانها (الملك عبد العزيز آل سعود) طيب الله ثراه ورجاله الأوفياء، ونثمّن بكل إجلال وإكبار، المواقف الفدائية لجنودنا البواسل على الحد الجنوبي. هنا تتجلى صورة ناصعة من صور الوفاء، والتضحية والفداء. من أجل الوطن.. أمنا الرؤوم: موطنُ الإِنسانِ أمٌ فإِذا؛ عقَّهُ الإِنسانُ يوماً عقَّ أمَّه