×
محافظة المنطقة الشرقية

احتفالات واسعة بـ«جشة الأحساء»

صورة الخبر

يجب التفريق بين المثقفين والمتعلمين، فعلى الرغم من أنهما جميعاً يشتركان في القراءة والاطلاع وغزارة المعرفة، إلا أن الفارق بينهما هو في منهجية القراءة ونوعها لا كميتها قد يصاب البعض بالصدمة حين يرى أستاذاً جامعياً أو طبيباً ناجحاً، أو إعلامياً شهيراً، متعصباً لا يؤمن بالحوار ولا النقاش ولا التعدد ولا الاختلاف ولا حتى سماع آراء مخالفة لرأيه، بل علاوة على ذلك قد يؤمن بعضهم بالشعوذة والدجل والخرافة، أو ربما يصل الحال بالبعض الآخر إلى أن يُكتَشف ضمن شبكة تجسسية تعمل ضد وطنه لحساب دولة أخرى، فترى الإنسان البسيط يشكك في مصداقية الخبر، ويحاول أن يجد له تخريجاً آخر، فيقول: ربما أن التحقيقات لم تكن عادلة، أو يقول: لعله مخدوع، أو قد يقول بعض البسطاء: إنه مسحور!. المهم أن ينفي عنه التهمة، فهو قد استقر في ذهنه أن إنساناً على هذه الدرجة من التعليم لا يمكن أن ينتهي به المطاف إلى هذا المنزلق الخطير والمصير المؤسف، مع التأكيد على أن درجة الاستغراب ستقل فيما لم يصل إلى حد التآمر على الوطن، وقد تصل إلى حد أن تكون عادية في الحالات التي تكون منسجمة مع الرأي السائد في المجتمع ولا تصطدم بعاداته وتقاليده، فكل رأي يتواءم مع السائد سيجد قبولاً وتأييداً مهما كان تافهاً، بل قد يجد دفاعاً مستميتاً من السواد الأعظم من البسطاء، ولولاهم لما أمكن لهؤلاء المتعصبين الاستمرار في فرض وصايتهم على الناس، ولما كانت تجارة الوهم رائجة. ما يدعو للاستغراب أن هذا الأستاذ الجامعي أو الطبيب الناجح أو الإعلامي الشهير ربما كان ناجحاً على مستوى المهنة، فهو لا يحتاج أكثر من أن يصب في رأسه كميةً من المقررات الدراسية ثم يفرغها في ورقة الاختبار ليسمح له بمزاولة المهنة، كما أن صفاته الشخصية ومواهبه الذاتية ومهاراته الحركية ربما تساعده في تحقيق النجاح أكثر من غيره، لكن هذا النجاح محصور على مستوى المهنة، فإذا تجاوزها إلى الحياة العملية كان إلى السذاجة أقرب منه إلى أي شيء آخر، ولذلك فالنجاح على مستوى المهنة لا يعني بالضرورة سلامة الأفكار ومنطقيتها، فمشكلة هذا النوع من المتعلمين هي فكرية لا معرفية، وتتمثل في أنهم عودوا أنفسهم ألا يتعلموا سوى أشياء محددة لا تخرج عما اعتادوه منذ صغرهم، ولذلك فإنهم لم يزدادوا من العلم إلا بما يزيد في تعصبهم وضيق في مجال نظرهم، ولا يمكن لأحدهم أن يقرأ كتاباً مخالفاً لفكره، بل قد يحكم على كثير من المخالفين له دون أن يقرأ لهم شيئاً، مكتفياً بما نقله (الثقات) عنهم!. ففي أثناء محاكمة قاتل فرج فودة، سئل القاتل: لماذا قتلت فرج فودة؟، قال: لأنه كافر، قيل له: من أي كتبه عرفت أنه كافر؟، قال: أنا لم أقرأ كتبه، قيل له: كيف؟، قال: أنا لا أقرأ ولا أكتب!، ولعل الصنف المذكور أعلاه لا يختلف كثيراً عن هذا الأمي القاتل، فهم يشتركون معه في الحكم على الأشياء دون معرفة كاملة واطلاع واسع. يمكن ملاحظة أن هذا النوع من المتعلمين يمتازون بالثبات الفكري والجمود والتقليد، وكثيراً ما ينقلون بلا نقد أو فهم أو تمحيص، ودون إعمال للعقل أو محاكمة لهذه الأفكار قبل التسليم لها والانقياد لمقتضياتها، كما أنهم يتخذونها صيغاً نهائية ونواميس ثابتة في الحكم على الأشياء، إنه يكفي للحكم على قبول الفكرة في نظرهم أن يكون أحد مرجعياتهم الأقدمين الثقات قد قالها أو أخذ بها، وكلما حاورت أحدهم في قول أو فكرة أتاك بقول يدعمه لأحد مشايخه المعتبرين ظاناً أنه بذلك قد أفحمك، وهو لا يدري أن هذا الرأي الذي أتى به شيخه هو في نهاية الأمر وجهة نظر تحتمل الصواب أو الخطأ، وقد يخالفه كثيرون في ذات المسألة، وأنت حين تقارن بين جميع الأقوال وتخضعها لعقلك وواقعك فلربما أخذت بأحدها، أو لم تقنعك فأخذت برأي جديد من خارجها. يجب التفريق بين المثقفين والمتعلمين في هذا الجانب، فعلى الرغم من أنهما جميعاً يشتركان في القراءة والاطلاع وغزارة المعرفة، إلا أن الفارق بينهما هو في منهجية القراءة ونوعها لا كميتها، فالمتعلم يبحث دوماً عما يوافقه ويزيد من موثوقيته، ويخشى أن يأتيه أحد برأي أو معلومة تصطدم مع ما اعتاد عليه منذ صغره، ولذلك فهو يزداد تعصباً ويقيناً بمقدار اطلاعه وقراءته، على العكس تماماً من المثقف "الذي يمتاز بمرونة رأيه واستعداده لتلقي كل فكرة جديدة متأملاً فيها ومتملياً وجه الصواب منها" كما يراه الدكتور علي الوردي، ويقول أيضا: "إن الإطار الفكري الذي ينظر الإنسان من خلاله إلى الكون مؤلف جزؤه الأكبر من المصطلحات والمألوفات والمفترضات التي يوحي بها المجتمع إليه ويغرزها في أعماق عقله الباطن، والإنسان إذن متأثر بها من حيث لا يشعر، فهو حين ينظر إلى ما حوله لا يدرك أن نظرته مقيدة ومحدودة، وكل يقينه أنه حر في تفكيره، وهنا يكمن الخطر، فهو لا يكاد يرى أحداً يخالفه في رأيه حتى يثور غاضباً ويتحفز للاعتداء عليه، وهو عندما يعتدي على المخالف له في الرأي لا يعد ذلك شيئاً ولا ظلماً، إذ هو يعتقد أنه يجاهد في سبيل الحقيقة ويكافح ضد الباطل".