نجحت رلى حمادة في خوض غمار الكتابة المسرحية، وبدا نصها الأول «حبيبي مش قاسمين» حقيقياً وجميلاً ومحبوكاً بذكاء ورهافة، وقائماً على حافة التراجيكوميديا الموزونة والمتخففة من التصنع أو الافتعال والخالية من أي مجانية. وبدا واضحاً أن الممثلة القديرة جداً وظفت في هذا النص ثقافتها وخبرتها الفنية الطويلة وإحساسها العميق بحقيقة المرأة الكامنة فيها ووعيها «السياسي» والاجتماعي. لا بد إذاً، في مقاربة هذا العرض المسرحي نقدياً، من التوقف عند النص أولاً، فالنص يمثل أحد وجوه الأزمة التي يعانيها المسرح اللبناني اليوم، وبات المخرجون والممثلون إما يكتبون نصوصهم بنفسهم او يقتبسون ويترجمون. رلى حمادة وضعت نفسها أمام هذا التحدي ونجحت فعلاً ولو أن مقداراً من المباشرة اعترى الربع الأول من النص وبخاصة في طرح مشكلة العلاقة بين اللبنانيين والجيش السوري أو جيش النظام السوري الذي حكم لبنان وتحكم به وبحكامه ومواطنيه. لكنها تطرقت ايضاً الى الثورة السورية التي استحالت حرباً ونجمت عنها حال الهجرة او النزوح... وتمثلت هذه المأساة في شخص الشاب السوري (مصطفى حجازي) الذي يدخل حياة الثنائي «الزوجي» خلسة ويبدد أوهامه وسعادته المتوارية خلف «التقنع». لكنّ اختيار الشاب السوري الهارب من حواجز الأمن اللبناني والمقتحم بيت هذين الزوجين غدا موفقاً مبدئياً ومعبراً عن مشكلة حقيقية يعانيها اللبنانيون اليوم . لكنه لم يلبث ان تخطى صفته كلاجئ سوري (وما يمثل من واقع خلافي) ليصبح الشخص الذي بمجرد عبوره شبه الطيفي، حياة هذين الزوجين، الطبيعية ظاهراً والمنفصمة داخلياً، يدفعهما الى حال من التوتر والمصارحة وإلى كشف الأكاذيب التي تحيط بواقعهما الزوجي. إلا ان المسرحية هي أولاً واخيراً مسرحية الثنائي أو «الكوبل» وتذكر من بعيد وفي سياق أشد واقعية ومباشرة بفيلم انغمار برغمان البديع «فصول من الحياة الزوجية» وبرواية ألبرتو مورافيا «حب زوجي» وفيهما تسقط أقنعة الزواج لتظهر الأكاذيب والنزعات الخبيئة. رلى حمادة وضعت إصبعها على الجرح مباشرة وعالجت هذه العلاقة ببعدها الواقعي واليومي والحي: الزوجان، عمار شلق ورلى حمادة يعيشان كمعظم الأزواج حياة هادئة ومعتكرة في آن واحد. الزوجة تحاول أن تكون سيدة من سيدات المجتمع البورجوازي المزيف والقائم على المظاهر الخارجية، سواء بلهجتها المتفرنسة أم بسلوكها المتصنع على طريقة «التنتات» البرجوازيات. لكنّ هذا القناع سرعان ما يسقط عندما تتوتر العلاقة مع زوجها فتكشف الزوجة حقيقتها كامرأة تعاني وتعيش حالا من العزلة العاطفية والجنسية وتدرك أن زوجها يخونها وتظل صامتة على خيانته، إلى أن تنفجر في سياق الحوار المتوتر والمواقف المتصاعدة فتتحول إلى امرأة قوية ومتمردة. استاذة في مادة التاريخ، لم تنجب والسبب عقم زوجها الذي تحبه وتتقبل منه الإساءة على غرار الكثيرات من النساء اللبنانيات والعربيات. ولكن كان لا بد لها من أن تنتفض في لحظات الانكشاف تلك، على الظلم الذي يمارسه زوجها فتفضحه وتنقلب عليه وتخضعه أو تذله عندما تخترع كذبة خيانتها إياه كما يخونها هو، وتوقعه في الفخ، لتكتشف في الختام مرضه الذكوري وعقده لا سيما المرتبطة بـ «الشرف» التي تقع تبعته فقط على كاهل النساء. وبعد أن تتطمئنه بأنها لم تخنه يوماً يرتاح ويسترجع ذكوريته الخاوية. أما هي فتعود إلى قناعها الاجتماعي الذي يخفي خواءها العاطفي ويمكّنها من اللعب على المجتمع وعلى نفسها انتقاماً من نفسها ومن المجتمع نفسه. أما الزوج عمار شلق، فهو يخون زوجته ويهملها عاطفياً وجنسياً ويبرر فتوره بمرض القلب الذي أصيب به، بينما كان يملك حياة أخرى مع نساء أخريات... وقد يكون ارتكابه هذه الخيانات رد فعل نفسياً وذكورياً إزاء العقم الذي يعانية وعدم قدرته على الإنجاب. وهذا العقم هو العقدة التي تتحكم به وبنزواته وتوهماته. إنه الرجل الذكوري ولكن المصاب بعقدة العقم، يهرب من زوجته ومن الحياة الزوجية ومن نفسه من دون أن يلقى ما يشفيه من اضطرابه الرجولي. شاء المخرج موريس معلوف، أحد رواد المسرح اللبناني الحديث العائد إلى شغفه القديم بعد فترة من الانقطاع، أن يقدم النص بواقعيته وبعده الكومي - تراجيدي ولكن عبر الخط المتصاعد والمتنامي الذي يعود إلى نقطة انطلاقه لحظة استسلام الزوج والزوجة لواقعهما المفروض عليهما قدرياً. وركّز معلوف على لعبة الممثلين تركيزاً رئيساً فهم عماد اللعبة ولا سيما الزوجين بعد مغادرة الشاب السوري الدخيل او «الغريب» كما يسمى عادة. لم يلجأ معلوف إلى تعمية المواقف والصراع بل أراد اللعبة مكشوفة ولو بدا الزوج والزوجة متواريين خلف قناعيهما. لكن الكشف هنا يبلغ مرتبة الواقعية الحادة في أحيان لا سيما وسط الإضاءة الثابتة والحيادية (هاغوب ديرغوغاسيان) التي لم ترافق اضطراب الشخصيتين ولم تظللهما ووسط الديكور العادي والجامد الذي لم يهدف إلى ترسيخ مشهدية سينوغرافية متألقة ما عدا شبكة العنكبوت ذات الدلالة الرمزية. هذا الكشف حمّله معلوف أبعاداً رمزية تجعل من اللعبة وجهاً آخر للحقيقة. لكنّ الأداء البديع تمكن من التعويض عن ضعف الإضاءة والديكور، وقد تجلى خصوصاً في الحضور الطاغي للممثلة الكبيرة رلى حمادة وإلى جانبها الممثل القدير عمار شلق. تتألق رلى في شخصيتها هذه التي عاشتها بروحها وجسدها بل بلحمها ودمها، ونجحت في تلوين تعابيرها وقسماتها متنقلة بين رمزية القناع وجلاء الوجه الطبيعي، وحبكت هذه العلاقة الجدلية بين الحالين أو الموقفين ببراعة وشفافية. واللافت في أداء رلى وهو ما يميزها عن سائر الممثلات والممثلين، تركيزها على ما يسمى النص الداخلي أو «السوتكست» الذي يملأ حتى أقصى لحظاتها صمتاً. أما عمار شلق فنجح كعادته في أداء هذا الدور المعقد لكنه لم يضف جديداً إلى أبجديته كممثل وإلى أدواته أو تقنياته فبدا أسير «الكليشيات» التي باتت تحاصره كممثل، وهذه ليست مشكلته وحده بل مشكلة الكثير من الممثلين اللبنانيين الذين أساءت إليهم الدراما التلفزيونية. «حبيبي مش قاسمين» عرض مسرحي جميل ومؤثر، يطرح بمهارة في الأداء والإخراج قضية هي من أقدم القضايا المتمثلة في حياة الثنائي الزوجي، مقارباً إياها مقاربة كوميدية ودرامية لامعة. أما مفاجأة العرض فهو تقديمه تجربة رلى حمادة الأولى في الكتابة المسرحية.