كان انشغال اليدين بلفافة التبغ (السيجارة) وانشغال الرأس والدماغ بمجلة «تايم» حين يقلع (الدماغ) عن العمل، من الأمور التي تستدعي ملاحظة معلق مثل دوايت ماكدونالد، في 1957. ويحول اليوم تشاغل اليدين بطباعة الرسائل النصية، والرأس بصوغ الرسائل الإلكترونية والتغريد وبث الصور على يوتيوب، دون السؤال عما يصنعه الدماغ وتصنعه اليدان حين تكف عن العمل. فالأميركيون يمضي واحدهم 5 ساعات ونصف الساعة في اليوم الواحد متشاغلاً بوسيط رقمي. ونصف هذا الرقم يقضيه على جهاز نقال، على زعم «إي ماكيتير» للدراسات. وبعض الفئات يصرف وقتاً يفوق المتوسط العام بمرتين: فطلاب جامعة بابليو، في واكو (تكساس)، يقدرون الوقت اليومي الذي يقضونه في استعمال النقال بـ10 ساعات. وثلاثة أرباع مَن سنّهم بين 18 و24 يستيقظون على مراجعة هواتفهم. وسرعة انقلاب الأميركيين الى «شعب متواصل» لا سابقة لها. فأجهزة آيفون ذات الشاشة العاملة على اللمس سوقت في حزيران (يونيو) 2007، وتبعتها في 2008 الأجهزة العاملة على نظام اندرويد. وتعاظمت حصة السمارتفون من السوق من 10 في المئة الى 40 في المئة في سرعة قياسية. وبلغت نسبة التجهيز 50 في المئة، في الولايات المتحدة، في 2013. ومن لا يقتني سمارتفون اليوم يبدو مخالفاً وغريب الأطوار أو هامشياً وربما مسناً. فما دلالة الانتقال بين ليلة وضحاها، من مجتمع يمشي المرء فيه، وهو ينظر حوله الى مجتمع يمشي فيه المرء وعيناه على جهازه؟ ونحن ما كنا لنتمسك من غير انقطاع بالسمارتفون لولا إحساسنا بأن حاسوب الجيب هذا يطمئننا ويحسّن إنتاجيتنا، ويقينا الضجر، ويؤدي لنا ألف خدمة وخدمة. وخلص استطلاع أجراه «بيو ريسرش سنتر» في 2015 الى أن 70 في المئة من الأميركيين المستطلعين صرحوا بأنهم يشعرون بأن أنفسهم أكثر حرية مع هواتفهم، وصرح 30 في المئة بأن هواتفهم في مثابة رسن يقيدهم. وقال نصف من سنهم بين 18 و29 سنة أنهم يلجأون الى هواتفهم تخلصاً ممن حولهم. وبعد قضائها عمرها المهني في دراسة علاقة الإنسان بالحاسوب، تركت شيري تيركيل، أستاذة الدراسات النفسية والاجتماعية في معهد ماساشوسيتس للتكنولوجيا (إم آي تي)، المراقبة والوصف المحايدين الى المرافعة والتنديد. وقالت أن ثورة التواصل تنهش العلاقات الإنسانية من داخل وتفقرها في دوائرها كلها: في دائرتها العائلية، وفي دائرة أواصر الصداقة، وفي دائرة علاقات الزمالة المهنية والعلاقات الغرامية. وترسم شير تيركل صورة عن دوائر هذه العلاقات تدعو الى الأسى. فالأهل لا ينفكون زائغي الانتباه في أثناء اللعب أو حول مائدة الطعام. ويحبط الأولاد عجزُهم عن الاستحواذ على انتباه الأهل وانصرافهم اليهم بكليتهم. ويضطر الأصدقاء والزوار من لحم ودم الى منافسة أصدقاء يحوم طيفهم الرقمي على الحضور. والمدرسون يطلون على صفوف مليئة بتلاميذ منصرفين الى مهمات مدرسية متفرقة ومتزامنة، ولا يسعهم إيلاء هذه الصفوف إلا نصف انتباه. وينخرط الرجال والنساء في ثقافة غزل وتعقب تصيبها كثرة الاختيارات المتاحة بضعف الالتزام العاطفي وهبائه. وتردّ تيركيل المشكلة الى جذور تناولتها في كتاب سابق، «على حدة معاً» (2015): يغلب انشغال الشبان بجهازهم على إنشائهم «أنا» مستقلة بنفسها ويتقدم عليه. ولاحظت، في كتابها، مراهقين يتفاعلون ولعبهم الروبوتية على نحو يحول دون انفصالهم عنها، ودون نضوجهم. فالهواتف والرسائل النصية توهن القدرة على الانفصال عن الأهل وتعترض من نواح كثيرة سبل التقدم نحو سن الرشد. والقيام على تدبر صورة عن النفس على فايسبوك يؤدي حتماً الى تغيير هذه الصورة والاستغراق في فصل من فصول لعبة الكترونية قد يتحول ذريعة الى الهرب من مصاعب الحياة الفعلية، ويعاني الشبان المعاصرون ضروباً من الحصر والقلق غير معروفة من قبل وتترتب على خسارة الحياة الحميمة وعلى دوام أثر ما بثته وسائط التواصل الاجتماعي. وكتاب تيركيل الجديد يحمل هذه الأسئلة على بعد فلسفي يصحب البعد النفسي المرضي. فهي ترى أن عجز الشبان عن تحمل الانفراد والعزلة يبدد قدرتهم على التعاطف. وذلك أن القدرة على الوحدة هي الباعث على مساعدة الآخرين، وعلى اعتبارهم أفراداً منفصلين ومستقلين بذواتهم. وحين يقصر الأفراد عن استبطان هذه الذوات وسبرها، وينكفئون على عوالم وسائط التواصل الاحتمالية، يغلب على أذهانهم نازع مثاله القول: «أنا أشارك إذاً أنا موجود». فهم ينشئون هويتهم في مرآة غيرهم، ولأجل حسن ظن «أصدقائهم». ولا ينفك المراهقون يتصورون ذواتهم وأنفسهم في إطار إخراج مسرحي أو سينمائي. فما أن يضطروا الى الوحدة أو العزلة حتى يشعرهم ذلك بـ «قلق الخروج من الشبكة». ولاحظت الباحثة في ضوء مئات المحاورات والمقابلات التي أجرتها منذ 2008، السنة التي شاع فيها استعمال السمارتفون، أن تلامذة مدرسة ثانوية في نيويورك يتفادون النظر مباشرة الى من يكلمهم ويكلمونه. وهؤلاء التلامذة يكادون لا يفهمون العبارة بلغة الجسد ومصطلحه، ويرهقهم الإصغاء الى المدرس وترهقهم مخاطبته، ويكاد يستحيل عليهم الحلول محل غيرهم أو تبني وجهة نظره لبعض الوقت. وهم لا يسعهم الإقرار بأنهم ربما جرحوا من كلموه من غير مراعاة شعوره، ولا إرساء صداقة على الثقة وتبادلها. وهذه، مجتمعة، هي من أعراض التوحد. وتردد الباحثة إحصاءً يزعم أن الشعور بالتعاطف والمؤاساة تقلّص بنسبة 40 في المئة عن مستواه قبل 20 عاماً بين أفراد عيّنة تلامذة ثانويين اختبروا بواسطة روائز نفسية. فأدب الصداقة، على ما يرى الشبان، يدعو الى تفتيت الانتباه وشرذمته. وهم اعتادوا مخاطبة مخاطبين ليسوا حاضرين. وهذا منعطف حاد في ما تسميه شيري تيركيل «تكنولوجيات الصداقة». فعمد الشبان، بداية، الى بذل وسعهم وجهدهم في تحسين صورتهم على فايسبوك. وهم يميلون منذ بعض الوقت، الى تفضيل تطبيق «سنابشات» الذي يمحو الرسائل في أعقاب قراءتها أو رؤيتها مباشرة، أو «انستاغرام» الذي يتيح المحاورة حول تيار أو دفق من الصور المتشاركة والمصورة غالباً بواسطة الهاتف. والمرفقان (أو التحميلان) يلغيان التتابع الزمني والثبات معاً، ويتيحان رسم صورة ذاتية تبدو أكثر عفوية وتلقائية من تلك التي يتيح فايسبوك رسمها. فأشد ما يخشاه الشبان الذين يستعملون سنابشات ليس ترك بصمة لا تمحى على الشبكة بل ارتكاب معصية الإفراط في تحسين صورتهم الذاتية. وتدعو الى القلق ظاهرة أخرى هي اضطلاع وسائط التواصل الاجتماعي بتجنيب مستعمليها الحرج الناجم عن العلاقات المباشرة بين الناس. فتطبيق «فايس تايم» الذي صنعته آبل لم يلاق النجاح لأنه، على ما يشرح طالب سنة أولى جامعية، يفترض حمل الجهاز باليد والذراع قبالة الوجه، ويستحيل عمل شيء آخر في الأثناء. وعلى رغم هذا «العيب»، يلجأ بعض الفتيان الى «فايس تايم» تلافياً لقضاء الوقت معاً. فهو لا يحول دون قطع الاتصال ومباشرة عمل آخر على الشبكات الاجتماعية. وما لا يصنعه الشبان بواسطة السمارتفون هو الكلام والتخاطب. وما يقولونه في محادثاتهم وجهاً لوجه بالغ الدلالة: «لم أتعلم فعلاً كيف أحادث شخصاً حاضراً»، و «حين أكون مع أصدقائي وأريد إبداء ملاحظة أفضّل إبداءها على الانترنت (...) أشعر بأنني مقيد». ويبرر تلميذ ثانوي يعد العدة للالتحاق بجامعة إيفي ليغ الخاصة والمرموقة، قلقه من الالتحاق باضطراره حينذاك الى «المحادثة الموضعية الإلزامية». ويغلب على الفتيان إحساسهم بأن المحادثة العفوية تتهددهم بالكشف عن هشاشتهم من غير ضرورة. وتروي الكاتبة قصة فتى تسميه كولن، بينه وبين والديه خلاف مصدره تقصيره، هو وإخوته، عن تلبية توقعات الوالدين. ولا يشك كولن في أن نقل الخلاف الى «جيشات» يؤدي الى تخفيف حدته والحؤول دون تماديه. وهو يسأل، مستعملاً لفظة رائجة في لغة الأعمال: «ما القيمة المضافة التي تعود بها عليه وعلى والديه مشادة وجهاً لوجه»؟ ويجيب بأنه لا يرى مثل هذه القيمة بينما المحادثة على الشبكة، وبواسطتها، تقيد الحدة وتقلصها. ويلجأ الأهل الى الفضاء السيبيري ويؤثرون التحكيم في خلافاتهم مع ذراريهم من هذه الطريق، تفادياً لجموح انفعالاتهم وانفلاتها من العقال، وطلباً لمراقبة العناصر «المعقدة وغير العقلانية» التي تلابس الخلافات العالقة. ولكن التعاطف يفترض السيطرة على الانفعالات والمشاعر وإلزام النفس الاستماع الى من نشب الخلاف معه. وإذا قصر الأهل عن أن يكونوا قدوة، ولجأوا الى الرسائل النصية أو الى البريد الالكتروني، لم يتعلم الولد التعاطف، أو لم يرفعه الى مرتبة المعيار والميزان. وليست العلاقة الغرامية، من هذا الوجه، أحسن حالاً من العلاقة الأسرية. وتصف تيركيل أوضاع آدم، وهو معمار في السادسة والثلاثين، وعجزه عن تخطي انصرام علاقة غرامية طويلة انتهت الى الانفصال. فهو توسل الى مخاطبة صديقته، تيسّا، برسائل الكترونية، فضلها على المحادثة بالهاتف والصوت الحي. وعلل الأمر بأن الرسائل توفر «التقاط الأنفاس»، وتجنب ارتكاب الخطأ. وهو يهجس على الدوام بأرشيف علاقته الرقمي، وبعشرات الرسائل اليومية التي تبادلها مع صديقته طوال 3 سنوات. ومنها رسالة ضمنها صورة قدميه، وتعليقه عليها: «حاولي السيطرة على رغبتك حين ترينني محتذياً حذائي كروكس ولابساً كلساتي». ويقول آدم: لو كانت تيسّا قبالتي لأردت، إجبارها تحت وطأة القلق، على عذري ومسامحتي، أما التواصل الشبكي فمكّنني من المزاح وإيحائي بالتمسك القوي بالعلاقة. وفي فيلم سبايك جونز «هير» (Her)، تتولى الرفيقة الاصطناعية مساندة قرينها الإنسي من غير إملاءات إنسية حقيقية. ويحسِب الإنسان الحقيقي أن الصورة التي يرسمها عن نفسه في أثناء المحادثات الهاتفية الافتراضية أكثر إغراء من حقيقته. ويحاكي الإنسان الروبوت بديلاً من محاكاة الإنسان. * رئيس مجموعة «سلايت» ورئيس تحريرها وصاحب «مأساة بوش»، عن «نيويورك ريفيو اوف بوكس» الأميركية، 15/2/2016، إعداد منال نحاس