إذا لم يكن عبد الله بن خميس أستاذا لبعض القراء في الأدب العربي أو عميدا لمعهدهم كما هو الشأن لمن أدرك عهده مديرا لكليتي الشريعة واللغة العربية بالرياض، فإنه كان المدرسة كلها للجيل المخضرم من الإعلاميين والكتاب السعوديين. بالنسبة لكاتب هذا المقال الذي بدأ عمله الإعلامي عام 1963م، كان حمد الجاسر وعبد الله بن خميس يتقدمان نخبة من أدباء العصر في الرياض، يشدون من أزر الإعلاميين ويشجعونهم، ويتجاوبون مع احتياجاتهم، وكانوا بارتيادهم مكاتب الإذاعة بانتظام لا تحس منهم كـبرا ولا استصغارا للناشئين، فابن خميس من أكثر من تعاملت معهم الإذاعة والتلفزيون عند تأسيسهما بالرياض في منتصف الستينات، سواء فيما يتصل بالرقابة والمشورة، أو بالإعداد والكتابة الإذاعية والتلفزيونية. لم تكن علاقة كاتب المقال به عميقة في بداياتها، لكنها كانت على قدر من الود كافية لبلوغ داره ومزرعته ولتعميق الصلة بأولاده، ثم تحولت في العقود الأخيرة إلى درجة من الحميمية لا تكون إلا بين الوالد وولده، حميمية أظهرت المكنون حينما كان الأب مسجى في غرفة العناية الفائقة في الأيام الأخيرة من حياته، تتغشاه رحمة ربه التي شملت عباده، وما كان الولد يشكو بثه وجزعه على فراقه إلا إلى أرحم الراحمين، ولقد كان تكريمه في الجنادرية عام 2011م آخر ظهور علني وتعليق صوتي له قبل اعتلال صحته ووفاته في ذلك العام. بدأ ابن خميس في الخمسينات من القرن الماضي يسطع نجمه أديبا وباحثا وشاعرا، يحتل مقعدا موسوعيا بامتياز بين علماء العربية، متخصصا في بحوث الجزيرة وجغرافيتها وفي تراثها الشعبي، يشارك في المؤتمرات والندوات وعضوية المجامع، وكانت صحيفته الجزيرة اسما على المسمى، منصة لرأيه النزيه، ومنبرا لقلمه الحر، ومخزنا لأبحاثه العلمية الرصينة، ومعرضا لفكره المستنير، جمع فواتحها في كتاب من أنفس كتبه وهو من جهاد قلم في جزأين. وقد تحولت صحيفته من الامتياز الفردي إلى مؤسسة جماعية أهلية (1963م) فاستمر بمنزلة الأب الروحي لها ولم يتخلف عن اجتماعات مجلس الإدارة والجمعية العمومية، يمثل تسامحه وسمته عنصر الهدوء والتوازن بين مختلف الاتجاهات، وبقيت عينه وقلبه رغم تقدمه في السن يرقبان صرح المؤسسة حتى أضناه العجز، فلقد كان الحاضن الأول لاستمرارها وحمايتها من أي صدع أو اختلاف، وكان بالطبع المرجع الذي تستقى منه الحكمة وعزم الأمور. وعندما احتفلت مؤسسة الجزيرة بمقرها الجديد برعاية الأمير سلمان بن عبد العزيز (الثلاثاء 18-3-1997م) الذي أطلق فيه اسم حي الصحافة لأنه يجمع دور المؤسسات الصحافية الرئيسية في العاصمة ومقر هيئة الصحافيين والشركة الوطنية للتوزيع ودشن خلاله الريادة الإلكترونية لصحيفتي الجزيرة والمسائية بين الصحف السعودية - قامت الصحيفة بإعادة طبع عدد تذكاري من عددها الأول في عهد مؤسسها ابن خميس (1960م) وعدد تذكاري ثان لأول أعدادها في عهد المؤسسات الصحافية (1963م) وأطلقت المؤسسة اسم ابن خميس المؤسس على مبنى المطابع تخليدا لجهوده في التأسيس. تأليفيا، صدر لابن خميس جملة من المعاجم والموسوعات، تكون بعضها من عدد من الأجزاء، وتركز أكثرها على تراث الجزيرة العربية وجغرافيتها، خاصا وديانها وجبالها بمؤلفات فريدة امتازت بوقوفه بنفسه على الكثير منها، واهتم بالتراث وبتتبع الشعر ومصادره، وخص الشعر الشعبي بالكثير من بحوثه ومؤلفاته، وقارن جذوره العامية بالفصيح، ودخل في منافحات أدبية مع الكثير من الأدباء في هذا المجال، وأثرى الإذاعة السعودية بالمئات من حلقات برنامجه من القائل الذي نشر حصيلته في أربعة أجزاء. وكما اهتم بالجغرافيا والتراث، كان له باع طويل في مباحث التاريخ لم يستكشف بعد، تجده مثلا في موسوعته تاريخ اليمامة المكون من سبعة أجزاء، وفي مخطوطه المعنون: لمحات من تاريخ الملك عبد العزيز الذي كتبه بمناسبة الاحتفال بمئوية تأسيس المملكة العربية السعودية (1990م) وإن من ينظر إلى معجم اليمامة المكون من جزأين، الذي شارك فيه مع العلامة حمد الجاسر في مشروع المعجم الجغرافي للبلاد السعودية، سيجد أنه مليء بالمعلومات التاريخية الخاصة بالمواقع والأشخاص والموضوعات المرتبطة بالإقليم الذي تشكل جغرافيته جزءا من نجد، وهو ما جعل المعجم يستجيب لما يرغب القارئ معرفته عن محيط اليمامة؛ جغرافيتها وتاريخها ومجتمعها، والواقع أن هذا المعجم الجغرافي - الذي أسهم في تأليفه نخبة من كبار أدباء السعودية وهم: الجاسر وابن خميس والعبودي والعمروي والجنيدل والعقيلي والزهراني وغيرهم يضاف إليه ما كتبه ابن خميس مما يخص الجزيرة العربية مثل: المجاز بين اليمامة والحجاز ومعجم جبال الجزيرة (في خمسة أجزاء) ومعجم أودية الجزيرة (في جزأين) - هي كنوز معرفية رصينة، جغرافية وتاريخية واقتصادية واجتماعية عن شبه الجزيرة العربية مجتمعة، وهي مراجع ثمينة يستعذب منها الباحثون اليوم بالقدر نفسه الذي يجدونه في معجم ما استعجم لأبي عبيد البكري الأندلسي ومعجم البلدان لياقوت الحموي الرومي البغدادي وغيرهما، مع فوارق مهمة تحسب للمؤلفين المعاصرين، وهي الإحاطة باللهجات والوقوف على المواقع، وأحسب أنه لو لم يخلف ابن خميس سوى هذه المعاجم لكفى. وبعد؛ تجمعنا الأعمار مع هؤلاء الشوامخ، ويحرص الأوفياء على حضور الملتقيات الثقافية عنهم، ثم تخبو صورهم تدريجيا عن المشهد لتبقى في ذاكرة الأهل والمحبين، والقامة ابن خميس هو كون من الطاقات الفكرية والعلمية، لا يختزل في رواية الذكريات معه، ولا تحصره ندوة، ولا تحصيه الكتب الخمسة التي ألفت عنه، فهو علامة شامخ، وشاعر وناثر لا يشق له غبار، وعلامة فارقة لا تخفيها المسافات، ومعدن لا يصدأ مع طول الأمد، وقومي بقيت القضية في صلب جوارحه، ووطني كتب في أحرج قضايا المجتمع في أيامه، كشؤون المرأة والزيت والماء، وحري بهذا الملتقى أن يقرر جادا إقامة معلم ثقافي يحمل اسمه ويستعيد تاريخه وينشر تراثه. * المقال بمناسبة اللقاء العلمي عن الأديب السعودي عبد الله بن خميس بالرياض 19-2-2014م الشرق الاوسط