أهم ما في «الاتفاق السوري» الأخير بين روسيا والولايات المتحدة، الاتفاق على عدم نشر نصوصه، عكس سابقه الذي عُقد في شباط (فبراير) الماضي واتفق الجميع على أنه فشل فشلاً ذريعاً. وفيما يعزو وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عدم النشر الى موقف نظيره الأميركي جون كيري، فقد يكون ذا دلالة هنا الخلاف الذي برز حوله بين البنتاغون ووزارة الخارجية، في أعقاب كلام واشنطن المتكرر عن «اللاثقة» الأميركية بالقيادة الروسية والتعهدات التي تأخذها على عاتقها. تضيء على ذلك واقعتان لم تغيبا عن نظر المراقب قبل الاتفاق ثم بعده: أولاً، إصرار موسكو على عقد الاتفاق وتحديد مواعيد مسبقة للتوقيع عليه، بينما يمرّ عام كامل على تدخلها في سورية (أيلول- سبتمبر 2015)، ونجاحها أخيراً في تحقيق تقدم في حلب كما في داريا والمعضمية في ريف دمشق. ثانياً، الإسراع إلى الإشادة بالاتفاق (على رغم هشاشته، كما أعلن الكرملين) واقتراح تمديده لـ48 ساعة قبل انتهاء الساعات الـ48 الأولى، تحت عنوان وحيد هو أنه يحدد مَن هي الفصائل الإرهابية وتلك المعتدلة، مع أن هذا البند ليس سوى نقطة في الاتفاق الذي يستهدف أساساً فك الحصار عن حلب وإيصال المساعدات، الذي منعه النظام طيلة الساعات الـ48 الأولى، عن عشرات الألوف من المدنيين المحاصرين فيها. ولكن هل حققت موسكو، وحلفاؤها من قوات النظام والميليشيات الإيرانية والعراقية واللبنانية، ما أرادته فعلاً في سورية بعد مرور سنة على بدء تدخّلها العسكري فيها؟ في ظن بعضهم، أن ما سعى إليه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في هذه الفترة هو إبرام اتفاق، أي اتفاق، مع واشنطن قبل خروج نظيره الأميركي باراك أوباما من البيت الأبيض مطلع العام المقبل، وأنه يرى في ذلك فرصته الأخيرة سواء كان رئيس الولايات المتحدة المقبل هيلاري كلينتون أو دونالد ترامب... لاقتناعه بأن أياً منهما لن يكون في موقع متابعة سياسة الابتعاد عن المنطقة، كما حال أوباما على امتداد الأعوام الثمانية الماضية. عملياً، ما قاله كيري رداً على انتقاد زميله وزير الدفاع أشتون كارتر للاتفاق، من أنه لم يوقعه إلا بعد أن حظي بموافقة أوباما، يعني أن الرئيس الأميركي قدم لنظيره الروسي هذه الفرصة. في المقابل، يرى بعض آخر أن بوتين بدأ يتحسّس حراجة موقفه في سورية وخطر تحوله إلى غرق في مستنقع من دون قعر، وأنه يرغب فعلاً في الخروج من ورطته هذه، أقله في ظل قدرته على الزعم الآن بأنه أعاد «توازن القوى» بين النظام ومعارضيه من ناحية، وهو الشعار الذي وضعه عنواناً لتدخله، ومن ناحية أخرى بدء تنسيق فعلي بينه وبين أوباما (كما يتوقع الاتفاق) لمحاربة الإرهاب في المنطقة والعالم، فضلاً عن روسيا نفسها. هنا أيضاً، يجد هذا البعض في قرار بشار الأسد إطلاق مدافعه (لأول مرة منذ أعوام) باتجاه طائرتين إسرائيليتين خرقتا أجواء سورية، كما في قوله أنه لن يتخلى عن خطته القاضية باستعادة كامل أراضي بلاده من القوى «التكفيرية والإرهابية» التي تحتلها، مجرد صدى لسياسات بوتين الساعية إلى محاولة إنقاذ ماء الوجه بعد سنة على تدخُّله في سورية. ملء الأجواء بغبار»الانتصارات»، بخاصة من دمشق، ولو موقتاً بعد التوقيع على الاتفاق الجديد. لكن أمر بوتين، كما يبدو جلياً الآن، لا يقف عند هذا الحد. فلأول مرة كذلك، وخلافاً لكل الاتفاقات السابقة، تحصل موسكو على اعتراف أميركي موثق بأنها وواشنطن وحدهما مَن يقرر مستقبل سورية، وبأن على القوى الأخرى فيها وفي العالم (من النظام والمعارضة، إلى إيران وتركيا وحتى دول الاتحاد الأوروبي) أن تقبل ما تقررانه في شأنها إن عاجلاً أو آجلاً. ولعل ما ذهب إليه جون كيري، في معرض الدفاع عن نفسه، من أن الاتفاق هو الفرصة المتاحة الأخيرة لإبقاء سورية موحدة، يعني شيئاً أميركياً وروسياً وإيرانياً وتركياً وعربياً وأوروبياً في الوقت ذاته: كل مَن يقف ضد الاتفاق، يكون كمن يعمل على تقسيم سورية. وليس مبالغاً به أن أحداً لا يستطيع، بل ربما لا يريد فقط، أن يتحمل علناً وزر هذه التهمة! وسط هذه الالتزامات- التباينات- التقاطعات، ولد اتفاق 10 أيلول (سبتمبر) بين روسيا والولايات المتحدة حول سورية. وبقدر ما لا يعني ذلك فشل الاتفاق المحتم، لا يعني أيضاً نجاحه ولو بنسبة بسيطة قياساً إلى ما كانت عليه الحال في الفترة السابقة. لعله يفتح ثغرة في الجدار المسدود، كما قال موفد الأمم المتحدة ستيفان دي ميستورا، على رغم ما يبدو على السطح من تعقيدات وموانع محلية وإقليمية ودولية. سيحاول الأسد، من دون شك، تجيير بنود الاتفاق وطريقة مقاربتها لمصلحته ومصلحة نظامه، بصرف النظر عن مدى نجاحه في ذلك. وستحاول إيران بدورها، فضلاً عن تركيا، كما روسيا وأميركا، مع ما لذلك من تأثيرات سلبية آنية أو مستقبلية في المشهد كله. لكن طمر الرأس في الرمل واعتبار أن شيئاً لم يحدث بين الدولتين الكبريين، وعلى صعيد المأساة السورية المديدة تحديداً، لن يكونا إلا نوعاً من الوهم، أو أقله ركوب الرأس: باراك أوباما المنسحب من المنطقة، وفلاديمير بوتين المتآمر عليها. قد لا تشهد سورية اختراقاً سريعاً على مستوى التسوية، ولكن يصعب القول أنها ستتجه إلى مزيد من التصعيد بعد أن وصلت الحال فيها إلى ما وصلت إليه. أكثر من ذلك، لا موسكو في سورية في أفضل حالاتها، ولا طهران أو أنقرة أو حتى واشنطن ذاتها، ما يدعو إلى الظن بأن غداً، أو بعده على الأقل، لن يكون كما كان أمس. وغني عن البيان أن الكلام على حال هذه الأطراف وحدها، يضمر كلاماً آخر هو أن لا خلاف في أن النظام والمعارضة والشعب السوري، هم جميعاً في أسوأ حال بحيث لا يستطيعون أن يغيّروا في الأمر شيئاً.