×
محافظة المنطقة الشرقية

السعودية .. يد العون والإنسانية ضد الكوارث والحروب

صورة الخبر

تم الرياض : دائمًا ما يكون للذكريات حيز كبير في أنفسنا، لاسيما إذا كانت مرتبطة ببدايات الطفولة البريئة وخطوات الفتوة والشباب، وتكاد تكون المدرسة هي أولى خطوات الاحتكاك بالعالم الخارجي بالنسبة لكل طفل، حيث يغادر حضن والديه وتشكل المدرسة خطواته الأولى التي يخطوها للحياة. وقد حفلت سنيّ الدراسة للجيل السابق بالعديد من المواقف البريئة والفكاهية والمضحكة، وباتت ذكريات عالقة في ذاكرة كبار السن والتي يستمتع جيل اليوم بسردها عليهم، ومن شدة غرابتها فإن بعض أفراد هذا الجيل لا يكاد يصدقها، بل إن البعض منهم يعتبرها حكايات من نسج الخيال، وواكب الجيل الأول والذي يحب أن يطلق عليه البعض (جيل الطيبين) افتتاح المدارس النظامية في البلاد بعد أن كانت الدراسة تتم عن طريق الاجتهاد لدى (الكتاتيب)، ولما فُتحت المدارس النظامية كانت قليلة في ذلك الوقت لذا كانت تجربة جديدة وفريدة عاشها ذاك الجيل الذي دخلها لأول مرة، ومع قلة ذات اليد وشظف العيش كانت الدراسية جدية وملهيات العصر قليلة إن لم تكن معدومة ومع الشدة في التعامل مع الطلاب من قبل المعلمين فقد شهدت تلك الفترة العديد من المواقف. المباني قديمًا للمبنى المدرسي نصيب من ذكريات الدراسة، فالمباني كانت في البدايات مبنية من الطين وأثاثها متواضع لا يتعدى طاولات وكراسي وسبورات وشيئًا قليلًا من وسائل الإيضاح كالخرائط والأدوات الهندسية، ولم يكن هناك كهرباء أو أجهزة تعمل على الكهرباء، فعلى سبيل المثال كان يتم تبريد الماء بواسطة (الزير)، وهو إناء فخاري يصب فيه الماء ويوضع في الظل أو في فناء المدرسة فيبرد الماء ويشرب منه الطلاب جميعًا بإناء واحد، يوضع على غطائه الدائري المصنوع من الخشب، وقد شهدت تلك المباني العديد من المواقف في بدايات ظهور التعليم النظامي، وبعد ذلك تطورت المدارس وحلت المباني المسلحة محل هذه المباني الطينية وتجدد الأثاث وبات يوزع على الطلاب الألبسة الرياضية والكشفية، وفي وقت لا حق تم توزيع وجبات مدرسية على الطلاب وبات من درسوا تلك الفترة التي صاحبت توزيع الوجبات المدرسية يتذكرون طعمها الرائع واللذيذ، والتي كانت مصدر جذب للمدرسة رغم ما كانوا يعانونه من ضرب مبرح من قبل المعلمين عند أي خطأ أو تكاسل في الدراسة أو حل الواجبات المدرسية. أساليب العقاب تظل ذكرى إيقاع العقاب البدني على الطلاب من أشد الذكريات المؤلمة التي لا يمكن أن يمحوها الزمن إذ كان العقاب يقع على الطالب لأتفه الأسباب في فترة أسرف فيها المعلمون في استخدامه بل وأفرطوا، مما حدا ببعض الطلاب إلى ترك مقاعد الدراسة والعزوف عنها كليًا بسبب هذا العقاب، ولم تكن سلطة المعلم داخل أسوار المدرسة فقط بل تمتد إلى خارجها وكمثال على ذلك فقد كان بعض المدرسين في القرى وخصوصًا من المتعاقدين يعاقب الطلاب إذا وجدوهم يلعبون بالكرة في وقت العصر، بل ويتوجه إلى الكرة ويلتقطها ومن ثم يقوم بإتلافها ورميها بينهم كعقاب لهم، ومن الغد يقوم باستدعائهم من فصولهم وضربهم ضربًا مبرحًا كعقاب لهم على اللعب خارج المنزل، بل ذهب الأمر إلى أبعد من ذلك فكل من لقيه المعلم يمشي خارج المنزل بعد الخروج من المدرسة فإن العقاب سيكون مصيره من الغد، ما جعل طلاب تلك الفترة يتحاشون الالتقاء بالمعلمين في الطرقات والأزقة ويهربون إذا لاقوهم من بعيد كي لا يتعرفوا عليهم. حفلات مدرسية ما يميز المدارس سابقًا هو وجود حفل ختامي في نهاية العام يتم فيه إبراز أوجه النشاط التي تمت مزاولتها طوال العام، والتي كانت بحق تصقل المواهب وتبرزها وقد كان النشاط في تلك الفترة يسمى (القسم المخصوص) حيث يتم تدريب الطلاب على الخطابة والإلقاء وتمثيل المسرحيات والحركات الرياضية والكشفية وعدد من المهارات كالرسم، ويختلف عن حفلات الوقت الحاضر بأن ذلك الحفل كان بمثابة (كرنفال) ينتظره الجميع في كل عام على أحر من الجمر، ويحضره أمير البلدة ورئيس الشرطة ومدير التعليم وجميع أولياء الأمور وأبنائهم بلا استثناء وتبدأ فقرات الحفل بالقرآن الكريم، ثم تتوالى فقراته من أناشيد ترحيبية مثل هذا النشيد لأحد المدارس الابتدائية التي صدح به طلابها الصغار: افرحي يا مدرستي مدير الشرطة شرفكي هو وضيوفه الكرام ثم تتوالى فقرات الحفل وسط هدوء وانسجام من الحضور الذين يتابعون بشغف كبير ما يتم تقديمه من مسرحيات هادفة وحوارات جميلة وخطب، وفي ختام الحفل يقوم أمير البلدة ومدير التعليم وكبار الضيوف بافتتاح المعرض المصاحب للحفل وأخيراً يتم تكريم المتميزين، ولقد كان هذا الحفل يشد الحضور والجميع وذلك لعدم وجود مجالات للترفيه في ذلك الزمن الجميل وذلك قبل البث التلفزيوني أو حتى وجود الكهرباء، ومن الطرائف التي تحصل مع ختام الحفل بأن بعض الطلاب الذين أدوا أدوار بعض الشخصيات المهمة سواء كانت سمعتها جيدة أو العكس في المسرحيات التصقت هذه الأسماء أو الألقاب بهم وصار الطلاب فيما بعد يطلقون عليهم مسمى من قاموا بالتمثيل باسمه بل ان اللقب غلب على أسمائهم ولازمهم لأعوام طويلة، حتى تزوجوا وأنجبوا أطفالًا، فبدأ الناس ينسون أو يتناسون تلك الأسماء التي جلبت لأصحابها الضجر على مدى أعوام طويلة كان الزمن كفيلًا بمسحها من ذاكرة أغلب الناس من حولهم. رحلات مدرسية من الذكريات الجميلة التي ما زالت عالقة بأذهان طلاب زمان هي الرحلات المدرسية والتي يقوم الطلاب فيها بمشاركة معلميهم في الترفيه وخلق جو من الفرحة وإدخال السرور، حيث تسيّر المدرسة كل فصل دراسي رحلة أو رحلتين إلى البراري والمتنزهات القريبة تصطحب فيها جميع طلاب المدرسة، وتكون أحيانًا بمشاركة الطلاب في دفع تكاليفها، إذ يطلب من كل طالب أن يدفع مبلغاً مالياً بسيط تدرج من (أربعة قروش) إلى ريال وريالين وخمسة ريالات، ويحضر هذا المبلغ الطالب من ولي أمره، والذي يعد دليل موافقة ولي الأمر على المشاركة في الرحلة، فلم يكن هناك خطاب رسمي يوجه لولي الأمر للسماح لابنه بالمشاركة من عدمها، ومن ثم يحضر كل طالب (بيالة) للشاي ويخرج الجميع من الصباح الباكر إلى أحد المتنزهات القريبة، ويقضون وقتاً ممتعاً ويتم إعداد وجبات الطعام للفطور والغداء بمشاركة الجميع في الطبخ من معلمين وطلاب وتجرى بعض المسابقات والألعاب، ويتسنى للطلاب رؤية معلميهم بوجه آخر غير وجه الصرامة التي تعوده منهم حيث تعلو محياهم ابتسامة الفرح والسرور، وقد عملت تلك الرحلات على كسر حاجز الخوف من المعلمين لدى الطلاب حيث حملت تلك الفترة العديد من مواقف العقاب البدني القاسي والمفرط في كثير من الأحيان في ظل تشجيع أولياء الأمور للمعلمين بحرية إيقاع العقاب البدني على أبنائهم عند أي تقصير في أداء الواجبات أو في تعديل أي سلوك خاطئ. لا تعليق للدراسة عندما نستعرض ذكريات ومواقف جيل الأمس من طلاب المدارس نجد أنها كثيرة جدًا، يصعب على المرء حصرها، فمنها ما يكون جماعيًا، ومن ذلك حينما يهطل المطر بغزارة فإن الدراسة لا تتوقف بل يسير الطلاب إلى المدرسة على أقدامهم ويكون مدير المدرسة ومعلميها أمام الباب حيث يأخذون بأيدي الطلاب ويدخلونهم إلى المدارس التي كانت في بدايتها مبنية من الطين، بينما في أحيان أخرى يقوم (فراش) المدرسة ممن يملكون سيارة في القرية أو أحد المعلمين بالمرور على بيوت الطلاب ويقوم بحملهم في صندوق السيارة ويذهب بهم إلى المدرسة ولو بعد مضي حصة أو حصتين، ما يدل على حرص الجميع على انتظام الدراسة في أشد الظروف، إذ لم يكن هناك ما يسمى الآن بتعليق الدراسة كما هو الحال اليوم. أزمة البرتقالة! أما المواقف الفردية فمن أبرزها وأغربها أن أحد الطلاب كان يشتكي المرض مما سمح له بالغياب لأيام عدة، ولكن لحرص الآباء والأمهات على عدم تغيب أبنائهم عن المدرسة في تلك الفترة فقد كانوا يحاولون مع الطالب كي يذهب إلى المدرسة وينزع عنه الكسل ويجد التشجيع ولو كان مريضًا، فقالت والدة هذا الطفل إذا ذهبت إلى المدرسة فسأعطيك (برتقالة) لتتناولها في (الفسحة) وقد كان خال هذا الطالب قد أحضر لأخته من الرياض صندوق برتقال خشبي كهدية، وكانت هذه الفاكهة نادرة في ذلك الوقت، ولا يكاد الناس يرونها إلا في صور المناهج المدرسية، وأما هذا الإغراء فقد تشجع هذا الطالب الصغير للذهاب إلى المدرسة رغم مرضه فأخذ البرتقالة ولحق بأخويه إلى المدرسة، ولما انتهى الطابور قام الطالب بعرض هذه البرتقالة وهي (فسحته) أمام أقرانه من الطلاب فرحًا بها، وعندما بدأت الحصة الأولى ودخل المعلم إذا بالطالب الذي بجانبه يرفع يده ويخبر المعلم بأن الطالب فلان قد أحضر معه برتقالة، فتوجه المعلم إليه وطلب منه إخراجها فأخرجها وأعطاها المعلم الذي قام بدوره بتقشيرها والأكل منها، ولما بقي منها القليل أعطاها للطالب وأكلها والدموع تترقرق من عينيه على ضياع برتقالته، حيث قضى المعلم على معظمها، ولما خرج الطلاب من المدرسة في نهاية اليوم الدراسي تربص الطالب صاحب البرتقالة بالطالب الذي أخبر عنه وقام برميه بحصاة (حجر) أصاب جبينه، ما جعل الدم يتناثر على جبينه وفر هاربًا إلى منزله، بينما ذهب الطالب المضروب إلى أهله باكيًا ومشتكيًا، وما كان من ذويه إلا الذهاب إلى بيت من ضربه للشكوى وطلب الحق، وبقوا في شجار إلى آخر اليوم، وهكذا صارت هذه البرتقالة وبالًا على صاحبها منذ البداية، وظل هذا الموقف عالقًا في ذهن هذا الطالب إلى اليوم. علاج للكحة وفي موقف آخر طريف، فقد ادعى أحد الطلاب أنه مصاب بالكحة الشديدة، وذلك عند زيارة طبيب الوحدة الصحية للمدرسة للكشف على الطلاب وأوعز إلى صديقه الذي بجانبه أن يدّعي كذلك أنه مصاب بالكحة، ليحصلا على شراب الكحة الذي يصرف لمثل هذا المرض، حيث كان مذاقه حلوًا ولذيذًا يشبه طعم الحلوى التي لم تكن تتوفر أو يستطاع الحصول عليها إلا في الأعياد، ولما كشف الطبيب على هذا الطالب وصاحبه الذين أشعلا الفصل بكحيحهما المتواصل، طلب منهما الخروج والوقوف مع عدد من الطلاب وبعد إجراء الكشف على جميع الطلاب المرضى، قام بصرف الدواء لهم بينما توجه إلى الطالبين ومعهم عدد قليل من الطلاب، وطلب من مساعده إشعال (الدافور) ليعقم الإبرة في إناء نحاسي، وقال إن علاجكما هو أن يعطى كل واحد منكما حقنة أي إبرة في العضل، ولم يكن بوسعهما الامتناع والإفصاح بأنهما غير مريضين خشية العقاب، وكان دور صاحبه الأول والذي من شدة خوفه وقف متصلبًا، ولما بدأ الطبيب بإدخال الإبرة في العضل طلب منه أن يسترخي ولكنه لشدة خوفه ظل متصلبًا وبعد أن أفرغ الإبرة طلب منه أن يسترخي ليخرجها، ولكنه ظل على موقفه فانكسرت الإبرة في العضل وقام بالهرب وهو يصيح، وتبعه معظم الطلاب وقد لاذ بالفرار من المدرسة، فتبعوه ولم يتبق في المدرسة سوى عدد قليل من الطلاب، فقرر المدير بأن يصرف الطلاب جميعًا، حيث لم يتبق سوى القليل منهم. الفلكة حاضرة وفي موقف آخر فقد دأب أحد الطلاب على أن يستعين بوالده في حل واجبات الرياضيات، لا سيما القسمة، وصار كل يوم يحضر إلى المدرسة وهو متقن للواجب، بينما يعاقب معظم الفصل لعدم تمكنهم من حل الواجبات في المنزل، حيث يقوم المعلم بضربهم بعصا (الفلكة) على أقدامهم، وبعد أسبوعين وشى أحد الطلاب إلى المعلم بأن الطالب لا يحل الواجب بنفسه، بل إن أباه هو من يحل له الواجب، فما كان من المعلم إلا أن استدعاه وأخرجه بجانب السبورة وكتب له إحدى مسائل الواجب، وطلب منه أن يحل المسألة، فأخفق فكان مصيره عقابًا شديدًا أوقعه المعلم عليه يوازي عقاب أسبوعين، وعاد إلى منزله وهو لا يكاد يطأ على الأرض من شدة الضرب بـ(الفلكة)، وكان هذا درسًا لازمه طوال حياته بأن لا يعتمد على غيره في حل واجباته المدرسية. جيل اليوم لاشك بأن جيل الأمس من الطلاب حظي بالعديد من المواقف الجميلة والطريفة، وظلت ذكريات عالقة بالأذهان وذلك لبساطة الزمن الذي كانوا يعيشونه، حيث لم يكن هناك تمايز بينهم فأدواتهم المدرسية مثلًا يشتريها الجميع من (دكان) القرية الوحيد أو (دكان) الشارع الذي يعيشون فيه بالمدن فهي متشابهة وبسيطة جدًا، والمدارس صغيرة وغيرها من العوامل، أما جيل اليوم فقد بات كل شيء متوفرًا بكثرة وبأنواع تحير من يريد الشراء، وصارت الأنظمة في المدارس واضحة وصريحة وتنوعت طرق التدريس وأساليب التربية أضحت حديثة تراعي جميع الجوانب المتعلقة بالطالب، بل إن الحياة برمتها باتت رتيبة فكل ما يطلبه الطالب يحصل عليه من ذويه بسهولة ووسائل الاتصال والترفيه بلغت مداها، وبذلك بات من النادر حصول مواقف غريبة كما حصل لجيل الأمس، وبالتالي تكاد تكون ذكريات الطلاب اليوم متشابهة ولا تحمل أي جديد.