"سيزبهل العالم ويزيد ازبهلاله ازبهلالاً" إن قرر تتبع روعة تصاميم مشافينا واختيار أماكنها، فلا عجب مثلاً أن تجد أن أكبر المشافي في بلاد المحروسة تخدمها محطات القطار تحت الأرض تصعد إليها بدرج عالٍ، وتنزل منها بدرج عالٍ. مع العلم أن ستين بالمائة من مرتادي هذه المشافي من غير القادرين، وأكثرهم يستخدمونه لزهد ثمنه، وقد تقف محتاراً أمام تلك الأم العجوز التي تحمل طفلها على كرسيه المتحرك ثلاثة أيام بالأسبوع كي يأخذ جلسة علاج طبيعي وتصعد به وتنزل به الدرج. ولا يوجد أي انبهار عندما ترى أن أحد مشافي النساء والتوليد يحيط به الباعة الجائلون من كل مكان، ولا يوجد أي مكان لكي تقف عربة إسعاف أو عربة خاصة تحمل مريضة في مخاضها، وعليها أن تترجل وتمشي مسافة عشرة أمتار لتصل إليها، ولا عجب عندما تجد المشافي في أكثر المناطق زحاماً في بلادنا فلا تجد مكاناً لكي تمر عربة إسعاف تنقل مصاباً أو عربة خاصة تحمل مصاباً أو مريضاً يحتاج لإنقاذ أو طبيباً على عجلة من أمره يريد أن ينقذ مريضه ويسعفه. ومن تناسق اختيار الموقع أن يقع المشفى بجوار المقابر، ويكون سماع النحيب والصراخ شيئاً عادياً لمن يعمل ويعالج به، أو أن تمر خلال سوق للمواشي حتى تصل إلى مشفاك، أو أن تكون هذه المشافي منشأة في قرى، وإمعاناً في ذل الطبيب فتكون في وسط الأراضي الزراعية؛ حيث لا طريق ممهدة فلا تستطيع العربات المرور، وعلى الطبيب أن يركب حماراً كي يصل إلى عمله. بل إنه لو زلفت بقدميك باب المشفى لوجدته أبنية خرسانية مصمتة، لا يوجد به أي مساحات خضراء، ولا أي لون يروح به عن المرضى وعن العاملين ما هم به من كآبة أو أن يبعث فيهم شيئاً من البهجة، حتى وإن وُجد مربع أخضر صغير فإنك تجد عدداً لا بأس به من البشر قد افترشوا المسطح الأخضر ليأكلوا ويشربوا فيه، وكأنهم في نزهة خلوية ريفية، ولتعرف أنهم من أهالي المرضى يجلسون هكذا في انتظار ميعاد رؤية ذويهم؛ حيث إنه لا يوجد لهم استراحات لانتظار أو أماكن الجلوس، أما هذا المربع الأخضر الذي قلما تجده فستجد أشجاره متساقطة أوراقها جدباء، وكأنها غاضبة من فعل مرتادي هذا المكان الذين لا يفهمون أهمية المسطح الأخضر في علاج مرضاهم والترويح عنهم. أما لو دفعك قدرك للدخول والتجول في أجزاء من أي مشفى فستجد أن عنابره ما هي إلا تجمع لا آدمي من الأسرّة الملاصقة إلى جوار بعضها؛ حيث لا توجد أي تهوية ولا أي مراعاة لخصوصية المريض، فالأسرّة متلاصقة بجوار بعضها، ولا توجد فواصل ولا ستائر بينها، حتى إن النائم على سرير يستطيع أن يمد ذراعه ليلامس النائم إلى جواره على السرير الآخر، فتكون الأنفاس متلاصقة والرائحة لا تحتمل، ولا تحدثني عن مبادئ مكافحة العدوى أو طرق الحماية من تنقل الأمراض بين المرضى، فتستطيع وأنت مطمئن البال أن تصف عنابر المرضى ببلاد المحروسة وكأنها معسكرات لتعذيب النازي، ولا عزاء لمريض دفعه فقره لدخولها، وتكون من أسوأ لحظات المفروس أن يمر بجولته اليومية ليطمئن على مرضاه، فلا يجد مكاناً يقف فيه بين الأسرَّة، خاصة ولو كانت طبيبة تمر بغرف رجال، وقد تصطنع العنف والقوة في محاولة منها أن تقف ضد مضايقات أحدهم أو تأخذ سريراً بعيداً يترجل عليه المرضى كي تفحصهم، وقد يكون أحدهم متوجعاً أو متألماً بينما تدفعه هي للحركة، فيظل يدعو على هذه المتعجرفة التي تتعالى عليهم، ونظراً لأنه لا تهوية ولا مراوح ولا شبابيك ولا نظافة مستمرة فيظل الطبيب واقفاً يتصبب عرقاً من الحر ولا يستطيع أن يتحمل رائحة العرق والعطب التي بالمكان. أما الإبهار في روعة الإنشاء فهو أن تكون غرف العمليات بمبنى وبنك الدم في مبنى ثانٍ، ومعمل التحاليل بمبنى ثالث، فلو نزف مريض فعلى الطبيب الركض مسافات لإنقاذ مريضه، ولا أحد يعرف هل المقصود من التصميم القضاء على الأطباء أم الخلاص من المرضى، بل إنه في بعض مشافينا يعطى الأطباء خريطة كي يتسنى لهم التحرك بسهولة في أروقة المشفى، ولا تعرف من أبدع هذا التصميم الحلزوني لهذا المشفى وأروقته، حتى إن الطبيب عندما يبلغ بأن المريض يحتاج لمناظرة حالته الآن فعليه أن يلف في طرقات المشفى وينظر في خريطة، وعليه أن يركض ليصل للمريض في وقت محدد، ولا عجب من أن تجد بناية أحد المشافي آيلة للسقوط والزائرين يجلسون تحته؛ لأنهم لا يعلمون أنه سوف يسقط قريباً. مشافينا ببلاد المحروسة ستجعل العالم ينبهر من أمجادنا في التصاميم، ولن تكفينا مراجع تكتب فيها روعة تصاميمنا. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.